في يومٍ جديد من أيام الحرب الطويلة، استيقظ سكان مدينة غزة وشمالها على منشوراتٍ إسرائيلية تحمل رسالة مُرّة، الجيش الإسرائيلي يطلب منهم إخلاء بيوتهم والتوجه نحو الجنوب، تاركين خلفهم كل ما تبقى من حياتهم الممزقة.
كانت أوراق المنشورات تتطاير في شوارع المدينة، تهبط كأوراق الخريف فوق رؤوس الأطفال والشيوخ والنساء، وكأنما بإمكان هذه الأوراق الهشة أن تقتلع جذورهم الممتدة في الأرض منذ أجيال. كانت تلك المنشورات تتحدث بلغة الأمر، بلغة لا تعرف الشفقة ولا تقدّر معنى البقاء.
ولكن، وعلى الرغم من اليأس الذي يلف المدينة منذ تسعة أشهر من الجوع والموت والحرمان، كانت هناك ردة فعل واحدة تردد صداها في الأزقة والبيوت وعلى الشرفات، #مش_طالعين. كان هذا الهاشتاغ أكثر من مجرد كلمات، صرخة جماعية تحمل في طياتها قصة صمود لا تعرف الاستسلام.
لم يكن الأمر مجرد رفض لطلب الإخلاء، بل كان تعبيرًا عن ارتباط روحي بالأرض التي احتضنتهم لسنوات طويلة. تلك الأرض التي رغم أنها مُثخنة بالجراح، لم تفقد قدرتها على بث الأمل في نفوس سكانها. في كل بيت من بيوت غزة، كان هناك صوت يقول "لن نترك مدينتنا، لن نتخلى عن حقنا في الحياة هنا".
ويعيش ما يقرب من 700 ألف نسمة في محافظتي غزة والشمال، حيث عانوا من مجاعة مدمرة أودت بحياة العشرات من الأطفال وكبار السن، ومع ذلك، رفض هؤلاء السكان المغادرة إلى المناطق الجنوبية، مثبتين جذورهم كأشجار الزيتون، متجاهلين الموت وتهديدات الإخلاء. فيما نزح نحو 400 ألف شخص إلى المحافظات الوسطى والجنوبية منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي في 7أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وبالرغم من كل ما يمر به سُكان محافظتي غزة والشمال منذ 9 شهور من قتل وتجويع وتشريد ممنهج، إلا أنّهم يُفشلون بفكرة البقاء، وكل المحاولات الإسرائيلية الرامية؛ لإفراغ المدينة من أهلها، وآخرها المنشورات التي ألقاها جيش الاحتلال صباح اليوم على غزة، تدعوهم للنزوح إلى المحافظة الوسطى بادعاء أنها أماكن "آمنة".
وردًا على دعوات الاحتلال بالإخلاء، أطلق ناشطون على منصات التواصل الاجتماعي وسم "#مش _ طالعين" للتعبير عن ثباتهم في أماكن تواجدهم داخل محافظتي غزة والشمال.
"وكالة سند للأنباء" استطلعت آراء النازحين الصامدين في شمال غزة، ورصدت تعبيراتهم المؤثرة والملهمة عبر منشوراتهم على وسائل التواصل الاجتماعي.
"نزوحنا إلى الجنوب لن يحدث"..
يقول الكاتب الفلسطيني يسري الغول لـ "وكالة سند للأنباء"، "نحن نريد تعزيز صمود الناس، فالتساوق مع الاحتلال يعتبر نوعًا من الانهزام، ولكن لا أريد أن أقول خيانة؛ لأن شعبنا يعاني الأمرين".
ويُكمل "الغول" حديثه، "لن نلوم ولا ندين أحدًا، ولكن نحاول تعزيز صمود أنفسنا والآخرين، وسنبقى هنا، لأن الاحتلال يكذب ويتفنن في قتلنا أمام صمت هذا العالم وتواطؤ بعض الأنظمة الشمولية والعالمية".
ويُشير ضيفنا إلى أن الاحتلال بالأمس قتل في البريج والمغازي والنصيرات وخانيونس التي يعتبرها مناطق آمنة، مُبيًنا: "الاحتلال لا يحتاج لأي مبرر لارتكاب جرائمه بحق شعبنا. لقد وصل إلى مرحلة العلو الكبير، لا يرى أحدًا حتى الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن يقينًا إلى زوال وقريبًا جدًا. سنشهد انتكاسة يسقطون فيها دفعة واحدة".
ويؤكد "الغول"، "دورنا كمثقفين وكتاب ونخب هو تعزيز صمود الناس، لا أن نزايد على المقاومة في هذه الأوقات العصيبة مهما كانت آراءنا الشخصية. الآن يجب أن نعزز صمود الناس وشعبنا".
أما المواطن محمد حسام (42 عامًا)، المقيم في مدينة غزة، ومتزوج لديه أربعة أطفال، يقول: "لطالما قال الاحتلال في منشوراته عن غزة منذ أيام الحرب الأولى إنها "مدينة قتال خطيرة"، ويعيد اليوم نفس الجملة ضمن محاولاته لتهجيرنا منها. لكنها ستفشل، فنحن صمدنا في أحلك الظروف وأصعبها؛ فهل نميل في آخر المطاف؟".
ويضيف لـ "وكالة سند للأنباء": "لقد مارسوا ضدنا أقسى أساليب العدوان، قصف عنيف كنا نتشاهد على أرواحنا ليل نهار، وتجويع دفعنا لأكل أوراق الشجر، وتهجير قسري متواصل من مكان لآخر حرمنا من الاستقرار، ولكن بالرغم من ذلك كله لم نفكر يومًا بالنزوح إلى الجنوب، وأخذنا عهدًا على أنفسنا أن نبقى في غزة ونثبت بعضنا البعض".
ويتحدث "حسام"، "يدعونا جيش الاحتلال للتوجه إلى المنطقة الوسطى، بينما نسمع كل يوم عن مجازر بشعة تطال مراكز الإيواء وخيام النازحين وبيوت الآمنين هناك. فأين الأماكن الآمنة؟ إنهم يكذبون ويريدون قتلنا بالتدريج. والعالم يشاهدنا ولا يُحرك ساكنًا".
ويختتم ضيفنا حديثه بقوة: "لن ننزح بعون الله وسنختار الموت قرب منازلنا وفي مدينتنا، على أن نُهان وننصاع لأوامر الاحتلال وخداع".
"نحن هنا لنبقى.. لنقاوم"..
أما النازح أبو أحمد حجاج في شمال غزة، نزح عشرات المرات، وفي كل مرة يكون النزوح تحت زخات الرصاص والقصف، يقول: "نحن هنا في شمال غزة، نمثل رمزًا للصمود والإرادة في وجه كل الموت الذي نعيشه، ويحاول الاحتلال بكل قوته وعنفه تهجيرنا وتدميرنا، لكننا نقف متماسكين راسخين في أرضنا وعزمنا على المقاومة".
ويضيف "حجاج" بنبرةٍ قوية: "لقد عانينا من قصف مكثف وتجويع وتهجير متكرر، ولكن رغم ذلك، فإننا نرفض الاستسلام ونؤكد على حقنا في الحياة الكريمة والسلام. نحن هنا لنبقى، لنقاوم، ولننتصر في وجه كل من يحاول إرغامنا على الانحناء أو الرضوخ للظلم".
ويستطرد، "العالم يجب أن يشهد ما نمر به وأن يتدخل لإنهاء هذه المأساة الإنسانية، وسنواصل الصمود والنضال، لأننا نعلم أن الحرية لا تأتي بالهدايا، بل تأتي بالتضحيات".
أما الشابة رهف أبو عمرة (22 عامًا) لا يختلف حالها كثيرًا في دائرة النزوح، تُعبّر: "أنا تعبت من النزوح، ومن فكرة الإخلاء، لكنني هنا صامدة، مستمرة في المقاومة والثبات".
وتزيد "أبو عمرة" حديثها بمرارة وألم: "في كل مرة أُجبر فيها على النزوح مع عائلتي، أعيش في عذاب، حيث كنا نعيش في بيوتنا بأمان وراحة، وأصبحنا الآن نتنقل من مكان إلى آخر في الشوارع، بحثًا عن مكان آمن، وكل الأماكن مستهدفة، والآن يطلبون منا أن نترك غزة، لكني أقول بقوة: لن يحدث هذا بأي حال من الأحوال."
إجماع على رفض التهجير..
وفي ظل التصعيد العسكري والتهديدات بالنزوح من جانب الاحتلال الإسرائيلي، يتجسد الوحدة والقوة بين أهالي غزة، حيث يوحدون صفوفهم في رفض قاطع لأي محاولة لإجبارهم على مغادرة منازلهم وأوطانهم.
بادر وجهاء المجتمع والمثقفون والإعلاميون بتوجيه تنبيهات حاسمة للمواطنين، حثوا فيها على التصدي للتهديدات وعدم الاستجابة لأوامر الاحتلال، مؤكدين أن استراتيجية الإخلاء تهدف بالأساس إلى زعزعة استقرار السكان وإرباكهم.