من نزوحٍ إلى آخر، يسير الناس في الشوارع، بظروفٍ إنسانية صعبة، عاجزين عن استيعاب هول ما يجري لهم، وعاجزين حتى عن إيجاد أماكن جديدة يحتمون بها من آلة القتل الإسرائيلية، بعد أوامر الإخلاء الجديدة التي طالت صباح اليوم الجمعة مناطق وسط وجنوبي قطاع غزة.
وتحت عنوان "تحذير خطير" نشر جيش الاحتلال بيانًا وألقت طائراته منشورات من الجو، تدعو السكان والنازحين الموجودين في مناطق بوسط وجنوب القطاع، بالإخلاء الفوري، وتشمل حارات شرقي دير البلح، والمناطق الشمالية الغربية لمدينة خانيونس وهي القرارة والمواصي والجلاء ومدينة حمد والنصر.
وبهذا التحذير الجديد، يُقلص الاحتلال الإسرائيلي، المنطقة الإنسانية التي ادعى مسبقًا أنها "آمنة"، وتضم مئات آلاف الفلسطينيين الذين نزحوا من كل مكان في القطاع المدمر.
ومنذ الصباح جرى رصد عمليات تفكيك خيام المواطنين، ونزوح من المناطق التي أمر جيش الاحتلال بإخلائها، وسط حديث عن صعوبات كبيرة في إيجاد أماكن نزوح جديدة، خاصة في ظل امتلاء مراكز الإيواء والمدارس والشوارع بالنازحين.
وكانت عائلة اعتماد محمد سليمان (54 عامًا) من بين العائلات التي نزحت صباح اليوم الجمعة وقد غادرت بيت أقارب لها، لجأت إليه في منطقة المحطة بدير البلح، بعد أن اضطروا على النزوح من مدينة غزة في نوفمبر/ تشرين ثاني 2023.
وتقول اعتماد سليمان لـ "وكالة سند للأنباء" إنّ النزوح المتكرر كان بمثابة كابوس يُطاردها بعد استقرارٍ مؤقت لبعض الوقت في دير البلح، وكانت تأمل أن تنتهي الحرب قبل أن يخوضوا تجربة تشريد جديدة، لكنّ الاحتلال لا يملّ من قتل الفلسطينيين وإرهابهم ودون مبرر، فكانت أوامر الإخلاء صباحًا.
وتشير إلى المنزل الذي يضم نحو 60 فردًا ما بين سكان أصلين ونازحين فرّوا من الموت من المناطق الشمالية وبعد أن دمر الاحتلال منازلهم، مضيفةً بصوتٍ تخنقه الدموع: "استيقظنا على أوامر الإخلاء ولا نعلم إلى أي مكانٍ نذهب؟ بدأنا بتجهيز الاحتياجات الأساسية من أغطية وفراش وطعام، وخرجنا في الشوارع بحثًا عن مكانٍ يأوينا والعجز يعترينا".
استقر الحال بهذه الأسرة في خيمة لأحد أقاربهم بمنطقة الزوايدة، تُردف: "لم نجد مكان إيواء في المدارس، ولا أرضًا زراعية فارغة يُمكننا نصب خيامٍ عليها، فاضطررنا للذهاب إلى أقاربنا لحين البحث عن مكانٍ آخر، وإلا سنبيت في الشارع بأطفالنا".
وبحسب شهادة ضيفتنا فإن مخيمًا للنازحين كان قد أُقيم منذ شهور على أرض فارغة تُسمى "البورة" بجانب المنزل الذي كانت تسكنه ويضم مئات العائلات، باتوا جميعهم في الشوارع بعد أن تم إخلاء المخيم بالكامل لخطورة المكان.
وعبّرت هذه المواطنة عن قهرها الشديد من المشاهد التي رأتها أثناء رحلة نزوحها، مستطردةً: "كان الناس يسيرون في الشوارع تحت حر الشمس الحارقة كيوم الحشر، هائمين مثقلين بالهموم التي أفرزتها الحرب، لا طرق آمنة، ولا موصلات تؤمّن خروجهم، ولا أماكن مقترحة يُمكن الذهاب إليها، ولسان حالهم يقول وين نروح؟".
لا يختلف الحال كثيرًا عند المواطن إبراهيم خليل (33 عامًا) وهو أب لـ 3 أطفال أحدهم وُلد في الحرب، فقد لجأ إلى منتزه عام شرق دير البلح مع، بعد إخلاء خانيونس الأخير، وقام ببناء خيمة بسيطة من أغطية وأكياس ليأوي عائلته، وقبل أن يُكمل الشهر جاء أمر إخلاء جديد لدير البلح.
يقول إبراهيم خليل لـ "وكالة سند للأنباء": "إنني أشعر بقهرٍ شديد، منذ أن دمر الاحتلال منزلي في تل الهوا جنوب مدينة غزة في بداية حربه الوحشية، وأنا في نزوحٍ دائم، بحثًا عن مكانٍ آمن لأطفالي ولا أجد، وكلما شعرت بنوعٍ من الاستقرار، أجبرنا الاحتلال مجددًا على الرحيل".
ضيفنا الذي نزح نحو 10 مرات منذ بداية الحرب الوحشية، يشير إلى أنّ كل مكان ينزح إليه يرتكب الاحتلال فيه المجازر، ويجبر سكانه على النزوح تحت النار، حتى باتوا لا يشعرون بالأمان والاستقرار في أي مكان.
وعن نزوحه الأخير يُحدثنا: "لم ألتقط أنفاسي بعد من نزوح خانيونس قبل نحو شهر، حتى جاء نزوحي من دير البلح، خرجت منذ الصباح أبحث عن أرض فارغة أو مدرسة لكن لم أجد فقررت بناء خيمة على شاطئ بحر الزوايدة".
ذهب "إبراهيم" رفقة إخوته الأربعة إلى شاطئ البحر المكتظ بخيام النازحين، وبالكاد استطاعوا إيجاد مكان فارغ على مساحة لا تتجاوز الـ 300 متر لعائلته ولأهله، مشيرًا إلى أنّ غيره الكثير من الناس لم يجدوا بعد أماكن تأويهم وباتوا في العراء.
وعبّر عن سخطه من الصمت الدولي والعربي إزاء ما يجري في قطاع غزة، قائلًا: "نرقب الهدنة وانتهاء الحرب، ولو أنّهم يضغطون على الاحتلال بشكلٍ كاف لانتهت مأساتنا لكنهم شركاء مع إسرائيل في إبادتنا وهذا لن نُسامحهم عليهم".
وفي مدرسة النمروطي بمدينة حمد شمال غرب خانيونس، تعيش عائلة المواطنة أوصاف ناصر حالة من القلق والخوف، منذ إعلان أوامر الإخلاء التي شملت منطقتهم، وترافقت مع إطلاق نار كثيف وقصف على مدار الساعة.
وتقول "أوصاف" لـ "وكالة سند للأنباء" إنهم لا يستطيعون الخروج من مكان نزوحهم منذ أيام؛ بسبب ازدحام الطرق وعدم توفر وسيلة موصلات، لنقلهم إلى أرض أقاربهم بالمنطقة الوسطى، موضحةً أنّ أصوات الانفجارات وإطلاق النار لم تتوقف منذ ساعات الصباح.
وتوضح أنّ الإخلاءات المتكررة رغم أنها أتعبتهم نفسيًا لكنها جعلتهم في حالة استعداد دائم لأي نزوح، حيث جهزوا أغراضهم ومستلزماتهم لكن علقوا في طريق انتظار شاحنة تنقلهم إلى مكان نزوحهم الجديد.
الدفاع المدني: الاحتلال يستخدم التهجير كعقوبة
بدوره يؤكد مدير الإمداد في جهاز الدفاع المدني الفلسطيني محمد المغير أنّ الاحتلال يستخدم التهجير كسياسة عقاب للفلسطينيين وهذا يُخالف الحقوق الإنسانية العامة المكفولة بالقوانين والأعراف الدولية.
ويوضح المغيّر في تصريحٍ خاص بـ "وكالة سند للأنباء" أنّ "سلطات الاحتلال قلّصت المساحة التي زعم أنها إنسانية وآمنة لـ 15 كم مربع في خانيونس بما يوازي 13.8% من إجمالي مساحة المحافظة، ما أثّر بشكل مباشر على زيادة الازدحام، وتأخير زمن الوصول لطواقمنا.
ويضيف أنه من 15 كم يوجد 1.75 كم مربع طرقات وشوارع، وحوالي 0.5 كم منشئات خدماتية، إلى جانب بعض الأراضي الزراعية، وكل هذه المساحات في رحلات النزوح تُصبح أماكن متاحة لإقامة الخيام عليها، وهذا يُصعّب عمل طواقم الإنقاذ.
وكانت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" قد أكدت في تقرير لها مؤخرًا، أنّ أوامر الإخلاء القسري، التي يُصدرها جيش الاحتلال أصبحت حدثا يوميا لمواطني قطاع غزة، الذين يضطرون إلى المغادرة من أجل النجاة بأرواحهم.
وبحسب معطيات "أونروا" فإن 83% من قطاع غزة وُضع تحت أوامر الإخلاء أو صنفه جيش الاحتلال "مناطق محظورة"، مشيرةً إلى أن الأمان غير موجود بأي مكان في القطاع.
ووفق آخر الإحصائيات، فإنّ عدد النازحين في القطاع بلغ نحو مليونين، بينهم 1.7 مليون يعيشون في منطقة المواصي جنوب غربي القطاع بظروف معيشية مروعة، وفق بيان سابق لمنظمة المساعدة الإنسانية الدولية "أوكسفام".