مع مرور عام على معركة "طوفان الأقصى"، بدأت تتجلى آثار الشرارة التي انطلقت من قطاع غزة في وجه عربدة الاحتلال، وتداعياتها العسكرية والسياسية والأمنية على المحيط الإقليمي الذي كان سائدًا فيه مشروع التطبيع والهيمنة الإسرائيلية، وسط تهميش لمركزية القضية الفلسطينية.
فالعملية التي بدأت بهجوم بري وجوي وبحري مباغت من "كتائب القسام" لـ "إسرائيل" فجر السابع من أكتوبر/ تشرين أول 2023 أسقطت نظرية الردع التي حاول الاحتلال فرضها منذ عقود، وجاءت بظروف فلسطينية غاية في التعقيد، وفي بيئة إقليمية ودولية باتت مؤهلة لتصفية القضية الفلسطينية، تبعا لمراقبين.
الرئيس المؤسس للمنتدى القومي العربي معن بشور وصف عملية "طوفان الأقصى"، بأنها "تعبير طبيعي عن انفجار الشعب الفلسطيني الذي عانى من الظلم والعدوان والاحتلال، ومن تدنيس مقدساته عقودًا مديدة".
وأكدّ بشور في تصريح خاص بـ "وكالة سند للأنباء"، أنّ "الطوفان أيضًا يعني بطولات شعب ظن كثيرون أنهم استطاعوا من خلال حروب ومعارك واتفاقات وفتن أنّ ينهوا قضيته، فإذ به يخرج من كل معركة أقوى من المعركة التي سبقتها".
وشدد أنّ الطوفان كان بمثابة بداية انكشاف حجم الإجرام الإسرائيلي، وسقوط سردية الاحتلال للقضية الفلسطينية، فمما لا يختلف عليه اثنان أنّ فلسطين في عين العالم بعد "طوفان الأقصى" هي بالتأكيد غيرها قبله.
وأضاف: "هذا اليوم أيضًا يعني أنه إذا توفر لشعب فلسطين قيادة مؤمنة، مكافحة، مصممة على مواجهة الاحتلال فإن النصر يُكتب لها، خصوصًا إذا تميّزت هذه القيادة وهؤلاء المقاومين بإيمان وبكفاءة ومهارة ميدانية عالية".
وأشار بشور إلى أنّ "طوفان الأقصى" كان نقطة تحول على الصعيد الفلسطيني حيث أكدت للعالم كله أن هناك قضية حق وأن هناك شعبا يطالب بحقه مهما غلا الثمن.
وعلى الصعيد العربي، إذ تشكلت جبهة مقاومة لهذا الاحتلال، تمتد من غزة ثم إلى الضفة الغربية، فلبنان والعراق واليمن ومن ثم إلى عموم التحركات الشعبية في الدول العربية جمعاء، التي عبّرت بأشكال مختلفة عن عمق ارتباطها بقضية فلسطين.
وعلى الصعيد الإقليمي؛ فتحت هذه المعركة الفرصة لالتحام قوى إقليمية إسلامية بالدرجة الأولى فكان الدعم الإيراني دعمًا حقيقيًا على غير مستوى في هذه المعركة، وأكد أنّ هذه المعركة هي معركة أبناء الامة العربية والإسلامية جمعاء، تبعا لـ "بشور".
وأشار إلى أنّ المعركة نقطة تحول على الصعيد الدولي أيضًا، من خلال حجم المظاهرات التي عمّت دول العالم وقطاعات هامة فيها،حيث كانت أعلام فلسطين وصور شهداء أطفال غزة حاضرة فيها كرسالة رمزية للمحتجين على آلة القتل الإسرائيلية.
في المقابل أظهرت المعركة حقيقة أدوار بعض المستويات الرسمية لدول المنطقة، وزيف مواقفها تجاه قضية فلسطين، وحجم نفاقها في دعمها للاحتلال بل وكان بعضها شريكًا في العدوان الإسرائيلي الذي أباد البشر ودمر الحياة في قطاع غزة، وفق "بشور".
وأسهمت هذه الحالة بالإجمال في إضعاف مكانة "إسرائيل" وصورتها الدولية والإقليمية واستنزافها سياسًا واقتصاديًا وعسكريًا، وحتى في داخل مجتمعها الذي يشهد خلافات حادة وأزمة ثقة بين الشعب والمستويات السياسية والعسكرية التي لم تتمكن من حمايتهم يوم السابع من أكتوبر، ولم تستطع حتى الآن استعادة أسراهم لدى المقاومة.
بموازاة ذلك، يعتقد الكاتب محمد غازي الجمل أنّ عملية طوفان الأقصى أعاد مشروع حركة "حماس" إلى هيئته الأولى عند انطلاقها كحركة مقاومة تعتمد على الكفاح المسلح الطريق الأساسي لمجابهة الاحتلال ورفع كلفته ومنع راحته.
ولفت في مدونة نُشرت بالذكرى السنوية الأولى لعملية "طوفان الأقصى" أنّ هذا المسار (المقاومة المسلحة) فرض نفسه على الإقليم ليُصبح الاشتباك العسكري ممتدًا من الضفة وغزة إلى لبنان واليمن والعراق وإيران، وما يجاورها.
ورأى أنّ "حماس" نجحت في توظيف ما راكمته من قوة وموارد خلال فترة حكمها للقطاع؛ لإيقاع أكبر ضرر ممكن بالاحتلال، ثم لاستنزاف جيشه على مدار عامٍ كامل، وهو ما رفع شعبيتها في فلسطين والعالم، ووثق علاقتها بدول وقوى مناوئة للهيمنة الأمريكية، وعزز مكانتها السياسية رغم حجم الاستهدافات التي تعرضت لها بنيتها العسكرية والتنظيمية في القطاع.
معركة في توقيت صعب!
لم تنفك معركة طوفان الأقصى عن سياق الأحداث السياسية التي رافقت القضية الفلسطينية في الآونة الأخيرة، تحديدا ما سميّ بالاتفاقات الإبراهيمية، والهرولة نحو التطبيع وتشكيل تحالف عربي إسرائيلي في المنطقة.
عن ذلك قال الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي، إن القضية الفلسطينية مثلت المهر الرئيسي لتلك العلاقات التي نسجت خيوطها بين عديد الدول في المنطقة و"إسرائيل"، وكان يراد أن توأد القضية بصمت وهدوء.
وأضاف المرزوقي لـ "وكالة سند للأنباء" "في هذه اللحظة التاريخية الحاسمة والحرجة، تشكلّ مسار واضح ومحدد في سياق إنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، من بوابة التطبيع وإقامة العلاقات مع الدول العربية، ووصف إسرائيل على أنها دولة صديقة مع إزالة صفة العداء".
وأشار إلى أن ذلك ترافق مع حالة ابتزاز للموقف السياسي الفلسطيني، ودفع الشعب الفلسطيني للعزلة، وتصفية قضيته مقابل بعض المكتسبات المالية والاقتصادية.
في هذه أخذت المقاومة الفلسطينية على عاتقها موقفا تاريخيا فاصلا، على صعيد وضع حد لمسار التطبيع من ناحية، وقلب الطاولة من ناحية أخرى، ما أفقد الاتفاقيات مسارها الأمني والاستراتيجي، خاصة بعدما حاولت "إسرائيل" تدشين حلف عسكري للدفاع الجوي المشترك، وهو ما أثبتت وقائع المواجهة فشله وإخفاقه، وفق وجهة نظر المرزوقي.
وبين أنه برغم الثمن الكبير الذي دفعه الشعب الفلسطيني خلال عام من الحرب؛ لكنه ضمن تحقيق مسارين استراتيجيين، أولهما حماية القضية الفلسطينية من أخطر مسار سياسي تعرضت له في القرن الحادي والعشرين، وثانيها، أنه كشف العوار الاستراتيجي للوجود الإسرائيلي سياسيا وعسكريا في المنطقة.
ونبّه في ختام حديثه، إلى أنّ حالة التطبيع لم يعد يقبل بها بنيامين نتنياهو ثمنا سياسيا لوقف العدوان؛ لأنه بات يدرك ببساطة أنها لا توفر له بيئة أمنية ولاسياسية طبيعية في المنطقة، وأنّ مشروعه بات يتمثل في ضرورة إنهاء المقاومة بالمنطقة.
ذهب رئيس المرصد المغربي لمناهضة التطبيع عزيز هناوي إلى الرأي ذاته في أنّ توقيت عملية طوفان الأقصى "استراتيجيا ومدروسا"، في سياق مواجهة صفقة القرن للقضية الفلسطينية.
وأوضح هناوي لـ "وكالة سند للأنباء" أنّ جوهر صفقة القرن لم يتبدل ولم يتغير مع وصول إدارة جو بايدن للبيت الأبيض، وإن اختلف شكل تنفيذها، وكان يراد من خلالها تطويع المنطقة العربية ودولها؛ لتشكل سياجا سياسيا وأمنيا وعسكريا لدولة الاحتلال.
ووصف المعركة بأنها "مجددة القرن" في الوعي تجاه القضية الفلسطينية، إزاء ما تعرضت له من تغريب طيلة العقود الماضية، في ظل اشتراطات التطبيع من تغيير للمناهج وتغريب للعقول السياسية الوطنية.
الجغرافيا الصعبة!
امتدادات المعركة وصلت لحدود الجغرافيا الأكثر تعقيدا في بيئة القضية الفلسطينية، في ظل ضمان الاحتلال لوقت قريب حصوله على تأييد غربي أكبر لصالح روايته وسرديته، في ظل ضعف دبلوماسي وسياسي فلسطيني وعربي إزاء هذه المواجهة.
ورأى رئيس المجلس الأوروبي الفلسطيني للعلاقات السياسية في بروكسل ماجد الزير أن ظروف الحرب وبيئتها، خلقت مناخًا مختلفا إزاء القضية الفلسطينية، وصنعت إعادة تعريف لما يدور في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، من حيث السردية والموقف، وما تشكل من مسارات شعبية وسياسية ورسمية أحدثت متغيرات فارقة في المشهد الأوروبي تجاه القضية.
وقال الزير لـ "وكالة سند للأنباء"، إنّ "الموقف الغربي من دولة الاحتلال في السابع من أكتوبر الماضي، كان منطلقا من العلاقة الاستراتيجية التي تجمعها بأوروبا، التي صنعت بشكل عملي دولة الاحتلال وشكلت معها علاقة على صعيد 76 سنة منذ النكبة".
وبين الزير أن "أوروبا تحركت من واقع هذه العلاقة التي تعبر عن عضوية دولة الاحتلال في أوروبا، ويتم التعامل معها كشأن محلي أوروبي".
وأضاف أن "هناك علاقات ديمغرافية ممتدة عبر أوروبا، وثمة علاقات سياسية وعسكرية وثقافية، وبالتالي فهي جزء من النسيج الاجتماعي والسياسي والثقافي والقانوني في هذه القارة".
وأكّد أنّ "التطور الأوروبي للأحداث في فلسطين، تأثر فيما نقله ووثقه الاعلام من جرائم حرب وإبادة غير مسبوقة في العصر الحديث، وما وثقه الاعلام كحدث انعكس على حراك الشارع الغربي، تحديدا في بريطانيا وفرنسا".
وبين أن "هذا التأثير خلق رأيا عاما في هذه الدول امتد لأروقة السياسة وضغط على صناع القرار، خاصة مع تصاعد حالة العزلة الدولية لدولة الاحتلال، على ضوء القرارات الصادرة من المحاكم الدولية، والدعوات لملاحقة قياداتها".
وذكر الزير أنّ "ذلك انعكس على صعود حزب فرنسا الأبية الذي كان ولا يزال يجسد حضور فلسطين في الجمعية الوطنية بفرنسا، إلى جانب صعود تيار فلسطين في حزب العمال البريطاني".
من جهتها، تقول البروفيسورة بجامعة سان فرانسيسكو في واشنطن رباب عبد الهادي، إن الموقف الأمريكي الرسمي تصرّف في بداية العدوان وحتى الآن على أنه شريك وداعم للاحتلال في حرب الإبادة.
وأكدّت عبد الهادي في مقابلة أجرتها معها "وكالة سند للأنباء"، أنّ الرئيس بايدن وإدارته تُعامل كأسير لدى اللوبي الصهيوني، وأصبح هدفه الرئيسي وحزبه الديمقراطي، ينصبّ في محاولة الحصول على تأييد هذا اللوبي، للفوز بالانتخابات المقررة في شهر نوفمبر/ تشرين ثاني القادم.
وبينت أنّ واشنطن شكلت حالة غطاء سياسي ودبلوماسي وعسكري وأمني واقتصادي، وحالت دون عزلة "إسرائيل" القانونية والسياسية من خلال لجم المحكمة الدولية والتصدي للقضاة، كما منحت الغطاء لـ "إسرائيل" في مجلس الأمن.
وأوضحت أنّ ردود الفعل التي خرجت من الجامعات وعبر عنها الطلبة، مثلت حرجًا تاريخيا لواشنطن، ووضعتها في أزمة، ودفعتها لاتخاذ ولو مواقف علنية إعلامية تحرج "إسرائيل" في تحركاتها، وأحرجت إدارة بايدن في تحركاته.
ورأت أن الديمقراطيين يعتقدون بأن نتنياهو يريد توريطهم، وأنهم كانوا جزءًا من خدعته، ولهذا شهد الحزب انقسامًا تاريخيا غير مسبوق في تاريخه، دفع بايدن للاستقالة من السباق الرئاسي، وتقديم نائبته كامالا هاريس.
مخاطر جوهرية..
وحول المخاطر التي تعرضت لها "حماس" بعد اتخاذها قرار "عبور 7 أكتوبر" قال الكاتب محمد غازي الجمل إنّ هناك جملة مخاطرة سياسية وعسكرية جوهرية ولا تزال قائمة، إلا أنّ الفرص أمامها توازيها أو تزيد عليها.
فمن تقييم الأمر بمنظور مكاني وزماني واسع، فمقابل الاستنزاف في الجانب الفلسطيني واللبناني يتعرض الاحتلال للاستنزاف في غزة والضفة ولبنان وعبر الجو والبحر، كما أنه يستنزف على صعيد الشرعية الدولية.
وجاء في مقاله: "على صعيد الزمان، فإن الشعب الفلسطيني منذ احتلال أرضه جرّب طرقًا كثيرة للتحرر ولم ينجح أي منها وأن آخرها دخول الانتخابات ومحاولة المراهنة على وجود فرصة معقولة للإنصاف في النظام الدولي، لكن تم الرد دوليًا عليهم بحصار غزة وابتزازها سياسيًا لـ 17 عامًا".
ورأى الجمل أنّ "حماس" اقتنعت بأنّ إيقاف مسار تصفية القضية الفلسطينية بمختلف جوانبها دون مخاطرة كهذه (عملية الطوفان) لم يكن ممكنًا على الأرجح، وهو ما تعززه طبيعة الثورات على الاحتلال التي لا تنج غالبًا دون التسبب بأذى شديد للاحتلال، وهو ما يرد عليه بكثير من العنف والوحشية إلى أنّ يضطر في حال استمرار مقاومته إلى الاندحار أخيرًا".