قال موقع Middle East Eye البريطاني، إن الاحتلال الإسرائيلي حوّل ما يسمى "المناطق الآمنة" في غزة إلى مقابر جماعية في خضم حرب الإبادة الجماعية المستمرة منذ أكثر من 14 شهرا.
كانت أجسادهم متلاصقة، لا يمكن فصلها: "قطعة واحدة، كفن واحد، قبر واحد ... ملاكان صغيران، احترقا حتى الموت". هكذا وصفت أستاذة اللغة الإنجليزية عبير بركات الخسارة المأساوية لابنة أختها دانيا البالغة من العمر سبع سنوات، وابن أخيها يحيى البالغ من العمر أربع سنوات.
عبير، التي كانت تدرس في ما كان يسمى بالكلية الجامعية للعلوم التطبيقية في غزة، واجهت صعوبة في العثور على الكلمات التي تنقل خطورة "الجريمة الشنيعة" التي ارتكبتها "إسرائيل"، والتي قتلت شقيقها الأصغر طارق، مع زوجته وطفليهما الصغيرين.
احترقت العائلة حية في خيمة بقرية الزوايدة بغزة بعد قصف إسرائيلي للمنطقة في وقت مبكر من الشهر الماضي. أصاب صاروخ خيمتهم بشكل مباشر، مما أدى إلى عدم ترك أي فرصة للبقاء على قيد الحياة.
القتل بالحرق
إن المشهد المؤلم لخالة طارق، نعيمة، البالغة من العمر 69 عاماً، وهي تصل إلى سيارة الإسعاف للتعرف على جثة طارق المتفحمة، يجب أن يظل يثقل كاهل ضمير العالم إلى الأبد.
وبصوت مرتجف أكدت للمسعفين هوية ابن أخيها، وهمست من صدمتها: "استهدفوه هو وطفليه الصغيرين وزوجته وأحرقوه حياً".
فصرخت وضربت وجهها بألم، وأضافت: "لم يقتلوهم فحسب، بل أحرقوهم، أحرقوهم، أحرقوهم".
حاول الأطباء تهدئتها وهي تلاحقهم، يائسة من إلقاء نظرة أخيرة على أحبائها. ولكن مع وجود أهوال جديدة تنتظرها في ممرات المستشفى، حثها الأطباء على البقاء، والتمسك، والبقاء قوية. لم يبق لها سوى الدمار.
خسارة لا يمكن تصورها
يعرف الجميع في غزة نعيمة، المعلمة السابقة في وكالة الأونروا، والأيقونة، والحضور القوي. لقد أمضت في غزة عقودًا من الزمن في تشكيل أجيال من الرياضيين، حيث كانت شخصيتها الرياضية بمثابة رمز للقوة والمرونة.
كانت هي القلب النابض للاحتفالات والمناسبات والمهرجانات والمباريات الرياضية التي كانت مصدر فخر لأهل غزة. كانت معروفة بتفانيها الشديد وأناقتها وأسلوبها الرائع.
والآن، بعد مرور عام على هذه الإبادة الجماعية، اختفت هذه الأناقة، وسرقتها خسارة لا يمكن تصورها. لقد حرمتها الحرب الإسرائيلية من كل شيء: المنزل الذي بنته من خلال حياة من العمل الشاق، وإحساسها بالأمان، وميدالياتها، وصورها الثمينة، وتذكارات الإنجازات - حتى الملابس الجميلة التي كانت ترتديها ذات يوم بفخر.
واليوم، تقف في ممرات المستشفى المؤلمة، حافية القدمين، مرتدية ملابس النزوح، وتواجه ما لا يمكن تصوره: فحص الجثث الميتة لأفراد أسرتها الحبيبة.
كان الناجي الوحيد من المذبحة هو زياد البالغ من العمر ثلاثة عشر عاماً، والذي قرر بالصدفة أن يقضي تلك الليلة مع عمته الكبرى. لقد أصبح زياد الآن يتيماً، بعد أن فقد أمه وأباه وشقيقين. وانضم بذلك إلى صفوف ما يقدر بنحو عشرين ألف طفل فقدوا أحد والديهم أو كليهما في الهجمات الإسرائيلية ـ وهي الخسارة التي لن يعوضوا عنها أبداً.
وفي هذه الأثناء، أصبحت أهوال القصف وحرق الناس أحياءً هي القاعدة، وليس الاستثناء، في كل ركن من أركان قطاع غزة.
في قلب منطقة المواصي، وهي المنطقة الآمنة الإنسانية المزعومة في خان يونس، يستمر الاستهداف الوحشي للعائلات بلا هوادة. إن تسمية هذه المنطقة "بالمنطقة الآمنة" ليس مضللاً فحسب، بل إنه مفارقة مأساوية، حيث أصبحت مقبرة لعدد لا يحصى من المدنيين.
إن كل هذا يشكل جزءاً من سياسة الإبادة الشاملة التي تنتهجها "إسرائيل"؛ وهي إبادة جماعية ممنهجة.
الأمان في غزة وهم
في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني، استهدفت غارة إسرائيلية بطائرة بدون طيار مقهى صغيرا في منطقة المواصي، والذي أصبح شريان حياة لأولئك الذين يسعون إلى التواصل مع أحبائهم في غزة وخارجها.
كان الناس يتجمعون هناك لشحن هواتفهم، والوصول إلى الإنترنت، وتنزيل الدروس، في محاولة يائسة للحفاظ على بعض مظاهر الحياة الطبيعية وسط الإبادة الجماعية.
استشهد عشرة أشخاص على الفور في هجوم بطائرة بدون طيار، وأصيب كثيرون آخرون بجروح بالغة، بعضهم أصيب بحروق وتشوهات لدرجة أنه لم يعد من الممكن التعرف عليهم.
وتم نقل الجرحى على وجه السرعة إلى مستشفى ناصر شبه العامل، حيث احتاج العديد منهم إلى عمليات جراحية بسبب إصاباتهم التي تهدد حياتهم.
كان هذا المقهى أكثر من مجرد مكان للتجمع؛ بل كان ضروريًا لبعض العوائل، حيث كانوا يشحنون هواتفهم هناك باستمرار ويستخدمون الإنترنت، في محاولة لمواصلة دراستهم المتقطعة قبل أن يتم سحقهم بالهجوم الإسرائيلي.
في غزة، لا يعد استهداف المدنيين استثناءً؛ بل كان حقيقة واقعة، في "المناطق الآمنة" وأماكن أخرى، قبل وبعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. إن "الأمان" وهم في غزة ــ كلمة خالية من المعنى في مكان تتبع فيه الغارات الجوية العائلات حتى إلى المناطق المخصصة للملاجئ.
تُقتل العائلات في كل مكان قد تلجأ إليه: المنازل والمستشفيات والمدارس التي حددتها الأمم المتحدة والخيام.
اللامبالاة العالمية
لقد نقلت هذه الفظائع إلى العالم، ولكن الشهادات الحية للفلسطينيين غالباً ما يتم التشكيك فيها أو تجاهلها. ويتم التعامل مع معاناة أهل غزة بلا مبالاة.
وفي خضم الصمت العالمي والشك، يُترَك لنا أن نتساءل عما إذا كانت كلمات وصرخات وخسائر أهل غزة تعني أي شخص خارج حدود غزة المحاصرة.
بعد مرور أكثر من 440 يوماً على الإبادة الجماعية الإسرائيلية، لا يزال مليونا فلسطيني محاصرين في معسكر اعتقال، رهائن لدى نظام فاشي يميني عازم على إبادتهم تحت ستار الدفاع عن النفس ــ وهو ادعاء لا يدعمه القانون الدولي.
وعلى مدى عقود من الزمان، رفع الفلسطينيون أصواتهم، وشاركوا في سرد حقائق معاناتهم واحتلالهم وتطهيرهم العرقي. ولكن العالم يبدو غير مبال بهذه الصرخات.
في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عبرت عبير عن هذا الإحباط على صفحتها على موقع فيسبوك، حيث كتبت: "بعد مرور عام وما زلنا نحصي عدد الضحايا، فقدنا أصواتنا. لقد سئمنا من إخبار العالم بما يحدث لأن الأفعال تكررت مراراً وتكراراً... نحن ضحايا صمتكم. لا يغفر الله لكم جميعاً".
هذه ليست قصة غزة فحسب، بل المحنة التي لا تنتهي لشعب أجبر على تحمل قرن من المعاناة والعنف الاستيطاني الاستعماري الذي لا ينبغي لأي إنسان أن يواجهه على الإطلاق.
إن حياة الفلسطينيين لا تُحسب فقط من خلال الإحصائيات، بل من خلال الأحلام المحطمة، والأسر المحطمة، والقدرة على الصمود إلى أقصى حد.
إن الأسر التي أحرقت حتى الموت ليست مجرد أرقام لا وجه لها. إن صمت العالم في مواجهة مثل هذه الفظائع يرقى إلى مستوى التواطؤ؛ ونحن في حاجة إلى تحرك عالمي حاسم الآن لإنهاء الإبادة الجماعية.