"صرت أجري وأكبّر اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيرا منها، والحمد لله" بهذه الكلمات تسترجع الجدة يسرى لحظة استهداف عائلة نجلها، ليرتقي هو وزوجته وأولاده الـ 3، فيما لم تنجُ من هذه الغارة الإسرائيلية الغادرة إلا حفيدتها الصغيرة التي تحمل اسمها، والتي أصيبت في قدمها آنذاك، وترعاها الآن في خيمة بائسة، في إحدى مخيمات النزوح بدير البلح، وسط قطاع غزة.
"هي بنتي وأختي وروحي وحبيبتي وهي كل حياتي، كلهم استشهدوا وهادي اللي ضلّت من العيلة والحمد لله" بهذه الجملة تختصر الجدة في حديثتها لـ "وكالة سند للأنباء" مشاعرها تجاه حفيدتها يسرى حمدقية، وهي التي لم تبلغ من العمر إلا عامين، لكنها حملت وصفا أقسى وأكبر من أيام حياتها، وباتت "الناجية الوحيدة".
تعود الجدة بالذاكرة إلى أول شهر في أيام هذه الإبادة الجماعية التي تتواصل للشهر الـ 15 تواليا، وتضعنا في صورة آخر ما جمعها بابنها، فكانت محادثته وصوته. وتقول "رن عليا ابني وحكالي يمّا عازمك ع الغدا بدنا ناكل ونشبع، تعالي عندي..."، وما أن جهزت نفسها بعد مكالمتها الهاتفية، وارتادت طريق الذهاب لبيت ابنها، وإذ بقلبها يتهاوى بمنتصف سيرها على وقع غارة إسرائيلية شعرت أنها خطفت منها فلذة كبدها وعائلته.
"في نُص الطريق صارت الضربة (الاستهداف الإسرائيلي)، حكولي الناس ما تقلقي هاي لدار فلان، قلت لهم لا هادي لدار ابني، لداري أنا..." وكأن قلب الأم يمثل البوصلة الأدق ليس شعورا ومجازا فحسب، بل حقيقةً أيضا. وعلى وقع هرولة لم تتوقف رجلاها عن المضي فيها باتجاه البيت، والجدة يسرى تنطق بأعلى صوتها، وتكبيراتها تعلو على مسامع الناس في الشارع، وتحكي بصوت الأمومة المكلومة "اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيرا منها".
"ابني وزوجتي، وكل أطفاله الأولاد استشهدوا" والمشاعر المختلطة سيدة الموقف في مثل هذا الحال التي فيه الجدة يسرى. كان لضبابية الحزن وأسى الفقد السيطرة على جو المشهد حتى وصولها لموقع الاستهداف، وهي تنظر لنجلها وزوجته وأطفاله الـ 3 شهداء، إلى أن ترفّق بها الوجع بعض الشيء عندما وجدت حفيدتها التي تحمل اسمها، "يسرى" ما تزال على قيد الحياة، وقد أصيبت بقدمها.
"كانت يسرى الصغيرة بالسرير، وأخواتها الأطفال حولها يهزّوا سريرها على أمل أن تنام" كان هذا آخر ما شهدته الناجية الوحيدة مع أخواتها بحسب جدتها، وتشرح عن حادثة نجاة يسرى الصغيرة "كان السرير مغطّي وجهها، ووقع وهي أسفل منه". وكأن السرير قُدّر له أن يكون سببا في حماية الطفلة يسرى من النوم الأبدي، الذي فرضته غارة إسرائيلية على أخوتها، وأمها وأبيها بغمضة عين، اتصبح وحيدة بعدها، منقطعة من أُنس العائلة في مهد طفولتها.
وبعينينِ حالمة، وبقُبلةٍ غامرة بالحب، ومليئة بالشوق والفقد بالوقت نفسه تطبعها "يسرى الكبيرة" الجدة على جبين حفيدتها يسرى، تحاول فيها أن تبث وهج الحياة من جديد في قلب طفلة محرومة من أبسط حقوقها في "عائلة"، وهي تمسك دمية صغيرة لتلهو فيها حفيدتها، في سعيِ للعيش من وسط رائحة الموت التي تنفث في كل لحظة بكل مكان وزقاق، تحكي "اللي إله عمر ما بتهينه شدة، وربنا يقدرنا على رعايتها" بالرغم مما تعيشه مع حفيدتها من ظروف قاسية في النزوح الذي جابت فيه القطاع كله، واستقر بها الحال أخيرا كمئات آلاف الغزيين النازحين في خيمة لا توفر متطلبات حياة أساسية، ولا ظروف معيشية كريمة لساكنيها.