لكل شهيد في قطاع غزة ألم يُروى، وتفاصيل يحكيها من بقي على قيد الحياة، ليعيش على ذكراها وترديدها كلما حنّ القلب واشتاق لمن رحلوا، تؤجج القلب وتشعل لوعة الفراق، فكيف لأم فقدت وحيدها بعد أن فرقتهم الحرب شهورًا ولم تحظ بوداعه وقبلة على جبينه!
إنها حكاية الشهيد بهاء الخالدي (24 عامًا)، وحيد أمه الذي حلمت به عريسًا وأن يصبح أبًا لأطفال يمنحوها لقب "الجدّة"، ويترى فيهم بهاء الصغير، يكبرون في حضنها كما كبر وحيدها، لكن بهاء رحل، قبل أن يكتمل الحلم.
"وعدته أن أخطب له وأزوجه بعد انتهاء الحرب، لكنه استشهد وتركني"، بهذه الكلمات تسرد "أم الشهيد بهاء" شيئًا من ألمها، وتقول: "استشهد ابني في قصف إسرائيلي استهدف المنزل في مخيم الشاطئ بمدينة غزة، في 3 ديسمبر/ كانون الأول 2024 الماضي".
وبهاء، هو الابن الوحيد لأمه الأربعينية التي لم تنجب سواه، إثر تعرضها لجلطة بعد ميلاده أثرت على حالتها الصحية فلم تعد قادرة على الإنجاب.
نزوح وفراق..
لم تكن "أم بهاء" تعلم أن ذهابها في أول أيام الحرب لمواساة شقيقتها التي نجت من قصف إسرائيلي واستشهد 6 من عائلتها في قصف إسرائيلي بمخيم البريج، أنها لن تستطيع العودة مرة أخرى لبيتها ولابنها الوحيد.
وتروي: "لم نكن ننوي النزوح، ذهبت في 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 لزيارة شقيقتي التي استشهد 6 من أسرتها بالقصف، ونجت هي ابنها، لكن الاحتلال أجبرنا على النزوح جنوبًا تاركين بهاء وحيدًا بعد أن وعدناه بالعودة خلال أيام".
ويعزل جيش الاحتلال الإسرائيلي مدينة غزة، وشمال القطاع عن جنوبه، منذ بداية الاجتياح البري وتوغله في المناطق السكنية، وأجبر مئات الآلاف على النزوح جنوبا تحت القصف والتهديد، ويمنع كل الإمدادات والاحتياجات الإنسانية عمن تبقى في تلك المناطق.
"استشهد وحيدًا"..
تستعرض صورا لنجلها "بهاء" على هاتفها المحمول، وبعينين دامعتين تقول سمية "أم بهاء":"بداية الحرب كان التواصل صعبا جدا مع بهاء، وبعدما توفر الاتصال والانترنت كان يكلمني يوميا، ووعدني بالاتصال ليلا في ذات اليوم الذي استشهد فيه ولكنه لم يتصل".
وتتابع: "كان بهاء حزينا على فقدان أولاد خالته، وخصوصا "جهاد"، كما فقد صديقه المقرب، ومن بعدها قال سألتحق بهم قريبا، رغم ما مر به من مجاعة وخوف ونزوح متكرر داخل مدينة غزة".
مرت الأيام ثقيلة على وحدة بهاء وطالت لأشهر وأكملت عاما ونيّف، اشتاق لوالدته، وخالاته، فكان يردد دائما: "أنا بستنى فيكم تروحوا، أنا نظفت دار سيدي من الركام، لحد ما تروحوا".
وتسرد والدته المكلومة: "تربى بهاء في بيت جدته، وبعدما نزحنا جميعنا جنوبا كان يذهب لبيت جدته ويتذكر جمعات خالاته ويبكي وهو يكلمنا على الجوال ويحكيلنا انتو ليش رحتوا وسبتوني، كان خليتولي خالة أو خال على الأقل".
وعن ظروف استشهاد الشاب بهاء الخالدي، تقول الأم المكلومة:" قصفوا البيت بصاروخ وهو داخل البيت.. كان بتصفح الأخبار على جواله، ما كان بشكل أي خطر عليهم".
وتستطرد والدموع تنهمر من عينيها :"علمت بخبر استشهاده عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لم أسمع بخبر قصف المنزل، فوجئت عندما انتشرت صورته، والكل صار يتصل ويعزي، كانت صدمة لم أتوقعها أبدا.. خلص بكل بساطة ابني راح".
وتعيش الأم الثكلى أسيرة آلام جروحها وأحزانها على استشهاد وحيدها "بهاء"، وتقول: "الان ما بدي هدنة اللي كنت بدي أشوفه خلص راح، البيت يتيم وحزين راح يكون من بعده".
وتسبب التهجير القسري للمواطنين من شمال قطاع غزة إلى جنوبه بتشتيت آلاف العائلات وقطع أوصالهم، وحرمتهم من وداع شهدائهم أو معرفة أماكن قبورهم في ظل الحرب المسعورة المتواصلة منذ أكثر من 15 شهرًا.
وتتواصل حرب الإبادة الجماعية التي تشنها "إسرائيل" على قطاع غزة لليوم 464 تواليًا، أدت لاستشهاد 46 ألفاً و537 شهيدٍ و109 آلاف و571 إصابة بجروح متفاوتة بينها خطيرة وخطيرة جداً، منذ السابع من أكتوبر/ تشرين أول الماضي، وفق التقرير اليومي الصادر عن وزارة الصحة بغزة أمس السبت.