"أحلم أن تصل صوري إلى العالم، أن أنقل معاناة شعبي، وأن ينتهي هذا الكابوس الذي نعيشه"، كانت هذه كلمات أريج التي اختزلت شغفها وحلمها الكبير، لكنها لم تكن تعلم أن عدسة الكاميرا التي وثّقت بها حياة المكلومين ستصبح شاهدة على نهايتها.
وفي 3 يناير/ كانون الثاني الجاري، وبينما كانت أريج تواصل توثيق لحظات المعاناة بعيون شغوفة، تحولت تلك العدسة إلى شهيدة، إلى شاهد على آخر لحظاتها، قصف إسرائيلي استهدف منزل المصورة أريج شاهين في حي الدعوة شمال شرق مخيم النصيرات، ليأخذ منها الحياة ويترك لنا إرثًا من صورها التي كانت تحلم بأن ترفع اسم غزة في سماء العالم.
أريج، التي جابت المستشفيات وأماكن الدمار، توثق اللحظات التي تعجز الكلمات عن وصفها، كانت ترى في التصوير رسالتها للعالم، فازت بجائزةٍ بقيمة 200 دولار عن معرضٍ لصورها في بلجيكا، لكن أحلامها التي لامست السماء عجزت عن تجاوز الحواجز والحدود، بقيت الجائزة عالقة في طريقها إليها، كما بقيت أمانيها مُعلّقة في واقعٍ لم يُمهلها وقتًا كافيًا.
"موهبة استثنائية"..
تبدأ أميرة شاهين شقيقة الشهيدة المصوّرة أريج حديثها بفخر قائلة: "أريج كانت أختي وصديقتي وتوأمتي، قرب العمر بيننا جعلنا مخزن أسرار بعضنا البعض، كل ذكرياتنا كانت مليئة بالدفء؛ ملابسنا متشابهة وخطواتنا واحدة، وكانت تشجعني على الأمل والحياة، وأحفزها على التميز والشهرة، فقد وجدت فيها موهبة استثنائية".
وتضيف بفخر لـ "وكالة سند للأنباء"،: "أريج حققت إنجازًا عالميًا حين شاركت في معرض صور في بلجيكا، حيث عرضت لقطاتها التي نقلت جمال التفاصيل الإنسانية ومعاناة النازحين، فازت في المعرض وحصلت على مكافأة قدرها 200 دولار، لكنها لم تتمكن من استلامها بسبب الظروف الصعبة والعمولات، رغم ذلك، كانت فخورة بهذا الإنجاز، الذي أكد لها أن موهبتها وصلت إلى العالم".
وتسرد أميرة كيف بدأت أريج رحلتها مع التصوير: "تميزت أريج بموهبة الترتيب والتصوير، وصناعة الجمال من اللاشيء، مع امتلاكها أول هاتف آيفون، شجعناها على الالتحاق بدورة تصوير عاجلة، أتقنت من خلالها المهنة وبدأت العمل متطوعة دون مقابل. كانت تقول دائمًا: (المهم أن أكتسب خبرة وأطور موهبتي وأتعرف على الناس)".
وتشير أميرة إلى موهبة أريج الفريدة: "كنت أثق بقدرتها وأرى تميزها في كل صورة، وكان أسلوبها بسيطًا وجذابًا يعبر عن مشاعرها بصدق، والجميع أحب أعمالها وامتدحها".
وتوضح كيف أثرت مهنة التصوير على شخصية أريج: "زاد التصوير من نشاطها وحبها للحياة، أصبحت تخطط لكل جلسة بدقة، وتهتم بالتفاصيل لتحقق صورًا أجمل. التصوير كان شغفها الذي حملته معها في كل لحظة".
تتابع أميرة بحزن: "قبل استشهادها، كانت تحلم بالسفر لتصبح مصورة عالمية، بدأت تجميع الأموال لتحقيق حلمها، لكن القدر لم يمنحها الوقت الكافي. ربما كان ذلك خيرًا لها".
وتضيف أميرة تفاصيل عمل أريج الإنساني: "وثقت أريج خيام النازحين ومعاناتهم للحصول على الطعام والشراب، كانت تتألم مما ترى، لكنها واصلت التصوير لنقل الحقيقة، أحد الأشخاص من الخارج وثق بها وأرسل مبلغًا ماليًا، وزعته على النازحين بنفسها".
وتحكي عن آخر لحظات جمعتها بأريج: "جلست بجانبي تعرض صورًا التقطتها لعريس في جلسة خطوبة، وكانت سعيدة جدًا بإبداعها، تحدثت معي عن جلسة تصوير جديدة كانت تستعد لها، كانت متحمسة بشكل لا يوصف، حتى أنها نسيت أحد أدوات التصوير واضطرت لطلب المساعدة لإحضارها".
وتُعبر بدموعٍ شبقت حديثها، "كانت تتأثر بقصص النازحين، تعود إلى البيت حزينة لما شاهدته، لكنها تحاول دائمًا إخفاء قهرها. التصوير بالنسبة لها كان رسالة تنقل فيها معاناة الناس وتوثقها بصدق".
وتختتم أميرة حديثها بالقول: "أريج كانت قوية القلب وشجاعة، لم تخف من القصف ولا الخوف، التصوير كان حلمها وحياتها، وكانت تنوي إنشاء استوديو خاص بعد الحرب، الجميع أحب صورها وأسلوبها، حتى العريس الذي صورت له في يومها الأخير قال إنه لم يقتنع سوى بعدستها وإبداعها".
"شغوفة بالتصوير"..
أريج، التي رسمت بصمتها في قلوب من حولها بعدستها وحبها للحياة، لا تكتمل ملامح قصتها دون صوت شقيقها إيهاب، هو الذي كان شاهدًا على كل خطوة في رحلتها؛ من أحلامها الصغيرة بالكاميرا إلى تصويرها معاناة الناس وسط الألم والحرب.
يستذكر إيهاب شاهين، شقيق الشهيدة أريج شاهين:" كانت تحب الاجتماع معنا في البيت، وخاصة مع أخواتي، وتطلب من زوجتي إعداد أكلات معينة كانت تحبها، تجمعها علاقة صداقة قوية بابنتي الوحيدة، وكانت دائمًا تستشيرني وتسألني عن أعمالها وشغله، أريج كانت تقدّر النصيحة، خاصة في أمور التصوير، وتحب تعلم تفاصيل المهنة وتطويرها، واستطاعت أن تتقن التصوير بجدية وحصلت على شهادة من الممثل الفلسطيني باسل شاهين، كانت شغوفة بالتصوير منذ صغرها، وهو ما جعلها تسعى لشراء كاميرا، وقد دعمناها في تحقيق هذا الحلم".
ويضيف إيهاب عن شغفها بالمهنة: "تذهب للمستشفيات وأماكن الأحداث الساخنة خلال الحرب، وتوثق المعاناة واللحظات الصعبة، وفي آخر يوم لها، كانت تعمل في المطبخ عند والدتي مع الساعة السادسة مساءً، بعد العمل، تأتي يداها باردة من الماء وتضع يديها في يدي ويد والدتي قائلة: (إيدكم دافيين وأنا بالبرد)، فتضحكنا وهي تجلس بجانب كانون الفحم للدفء، قبل دقائق من أذان العشاء، تسألني عن مكان في خان يونس كانت تنوي الذهاب إليه لتصوير جلسة، أخبرتها بموقع المكان، فتجيب: (بعيد ومشوار، بدبرها)، كان هذا آخر كلام بيننا".
ويتحدث إيهاب عن تفاصيل عملها: "تميل أريج دائمًا للتصوير في الأماكن المغلقة، مثل المستشفيات أو مواقع الأحداث داخل الأبنية. تحرص على نقل معاناة الشعب المنكوب بصدق، لتوصل رسالتها للعالم عن الألم والتعب الذي يعيشه الناس هنا، رغم المخاطر، كانت تواصل عملها بشجاعة وإصرار".
ويضيف عن أمانيها: "تتمنى في بداية العام الجديد أن تنتهي الحرب وتعود الحياة إلى غزة، كانت تحلم دائمًا بفتح استوديو خاص بعد انتهاء الحرب لتوثيق الجرائم ومعاناة الناس من خلال عدستها".
ويتذكر إيهاب بداياتها مع التصوير: "منذ صغرها، تُظهر شغفًا كبيرًا بالتصوير، تلح علينا لشراء كاميرا، وتجمع جزءًا من المبلغ، فيما نكمل نحن الباقي لنساعدها، أريج لم تتوقف عن السعي لتحقيق حلمها، وأكملت رسالتها بصدق حتى آخر لحظة".