كان ضيفا مؤقتا على الأرض، والآن أضحى ضيفًا دائمًا في السماء، ظلّ طيفه ملازمًا للظل طيلة ثلاثة عقود، حتى أذنت الشهادة له بالكشف عن ملامحه، ليترك دويًّا هائلًا في التاريخ بحجم أفعاله وقليل أقواله، إنه قائد هيئة أركان كتائب القسام محمد الضيف.
وكانت شهادة "الضيف" إيذانًا لعائلته أيضًا، بالحديث عنه أمام عدسات الكاميرات، بعد أن كانوا يعرّفون أنفسهم بأسماء وهمية، ودون الحديث للإعلام عن تفاصيل عائلة الرجل الذي تهتف باسمه الملايين في ميادين القتال والنصرة والإسناد لفلسطين وقضيتها في كل العالم.
وعقب إعلان الناطق العسكري لكتائب الشهيد عز الدين القسام "أبو عبيدة"، في الـ31 من يناير/ كانون الثاني الماضي استشهاد محمد الضيف مع ثلة من قادة القسام خلال معركة "طوفان الأقصى"، التقت "وكالة سند للأنباء" بزوجته غدير صيام "أم خالد" (40 عاما)، لتروي لنا تفاصيل لم تروى من قبل عن رَجلها الذي كان "الأب والزوج والصاحب لأطفاله" كما تصفه.
وتقول "أم خالد": "لم يكن أبو خالد يوما من أهل الدنيا، كان يعيش فيها مختفيا عن أهلها بفعل احتياطاته الأمنية".
ولحسّه الأمني العال، لم يستخدم "الضيف" الأجهزة في حياته بشكل نهائي، وعن ذلك تخبرنا زوجته، أنه كان يعتمد على الورق في إدارة شؤونه، وتضيف: "كان حريصًا جدًا جدًا، وكان حامل هم الأقصى".
وشخصه كان إنسانا مثقفا له وجهة نظره الخاصة في مختلف القضايا، فمثلا كان يقول إن أهل الضفة يجب أن يتحركوا لمواجهة الاحتلال ومستوطنيه، وكان مهتما بشؤونهم وقضاياهم.
وتخليدًا وتأريخًا لحياته المليئة بالتضحية والبطولة، عكفت "أم خالد" على تدوين محطات مفصلية في حياة زوجها في دفتر مذكرات خاص بها، "لتنير طريق من اهتدى بهديه على ذات النهج والطريق".
وعن ذلك تحدثنا زوجة "الضيف": "كنت أدوّن تفاصيل حياة أبو خالد في كتاب عكفت على كتابته منذ بداية زواجنا، تحدثت فيه عن مراحل مختلفة من حياته كنت شاهدة عليها واتخاذه لقرارات مهمة له لكتائب القسام".
وتستطرد: "كتبت عنه عندما ذهب للضفة في التسعينيات عندما كان مطاردا للاحتلال، ولكنه استطاع التنقل للضفة دون علمهم، وعمل على تأسيس خلايا لكتائب القسام هناك.. مهما كتبت لن أوفيه حقه".
وتزيد: "أرّخت لأبرز المحطات في حياته من سيف القدس لحرب الفرقان، وصفقة وفاء الأحرار، إلى تفاصيل حياتنا اليومية وزواجه من زوجة ثانية واستشهادها".
الزوج والأب المحب..
أما عن "الضيف الزوج"، فقد كان يعبّر عن حبّه ووفائه لزوجته بطريقته الخاصة، حيث تستذكر "أم خالد" موقفا دونته في كتابها وتقول إنه من المواقف التي لازالت محفورة في ذاكرتها وتسرد: "أجريت عملية في عيني قبل عدة أشهر وكنت بحاجة للمتابعة بعد العملية، ويتوجب علي أن أضع قطرة في عيني 5 مرات يوميا، في تلك الفترة أخد أبو خالد إجازة من العمل العسكري لمدة أسبوع ليهتم بي.. رحمه الله".
وتردد "الكلمات تعجز عن وصفه، كان يخصص وقت لأطفاله يقضيه معهم يسألهم عن أحوالهم ودراستهم، وكان يدرسهم المواد الصعبة مثل الرياضيات والمواد العلمية".
وتتابع: "عندما يستصعب أطفاله من بعض المسائل الرياضية أو العلمية، كان يفهمهم الأسئلة، ويحرص على أن يفهم الأطفال الأسئلة، لا أن يحفظوها دون فهم".
ورغم انشغاله بعمله العسكري وقيادة الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، إلا أن ذلك لم يشغل "الضيف" عن أطفاله والاهتمام بهم، فقد كان يتابع تنفيذ أطفاله لجدول يضعه مخصوصا لهم يتخلله قراءة الكتب وحفظ القران، وممارسة الرياضة ومتابعة دروسهم ويحدد لهم نوعية العلم ويهتم بتطوير لغات أطفاله ويحرص على أنهم يفهمون لا يحفظون، وفق زوجته.
موسوعة علمية..
تصف "أم خالد" زوجها بأنه كان "موسوعة علمية"، يحيط بجميع أنواع العلوم المختلفة، وتردف: "لديه قدرة خارقة للإجابة على معظم الأسئلة التي توجه له في المجالات كافة، كان كمكتبة كبيرة تحوي على كتب ثقافية علمية دينية ومجالات مختلفة".
وكان "أبو خالد" يضع لوحًا كبيرًا في البيت إلى جانب خريطة كبيرة لفلسطين، تحوي على أسماء شهداء حركة حماس وذراعها العسكري كتائب القسام منذ بداية عهدها بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، ويدرس أطفاله عليها، تقول زوجته.
وتزيد: "كان يستخدم القرآن وتفسيره في كل مناحي الحياة، كان يتحدث في البذخ المنتشر في الفترة الأخيرة فاستشهد بآية "إذا أردنا أن نهلك أهل قرية أمرنا مُترفيها.."، فكان يرفض العيش ببذخ في هذه الحياة، ويتبع قول الرسول صلى الله عليه وسلم "اخشوشنوا فإن النعمة لاتدوم".
تفاصيل يومية من حياة الضيف..
ولا بد لشخصية القائد أن تنبع من حياة منظمة، فقد كان "الضيف" كما تروي لنا زوجته، إنسانًا منظمًا؛ يعطي لكل شيء حقه، يبدأ يومه بصلاة الفجر جماعة مع أولاده وثلة من رجال الظل الذين كانوا حوله، وبعدها يبدأ متابعة دروس أولاده خالد وبهاء وخديجة وحليمة، وتخبرنا أنه كانت تصل مجمل متابعته لأولاده خلال اليوم خصوصا اذا كان لديهم اختبارات لمدة 6 ساعات.
وتكمل: "كان يخصص وقتا لقراءة الكتب بعد الفجر، وبعدها يقرأ بريد عمله ويعطي تعليماته وقراراته بشكل آمن، رغم إصابته في عينه وفقدانه للرؤية في إحداها".
أما عن طعامه وشرابه، فتحدثنا "أم خالد": "كان أبو خالد بتبع نظامًا صحيًا في أكله، ويوزع وجباته على 5 وجبات صغيرة ومتفرقة، وخفيفة، وكان على رأس كل ساعة يتناول مشروبا ساخنا من الأعشاب مثل الزعتر والقرفة والبابونج والنعنع بدون سكر".
وتخبرنا: "كانت الفاكهة جزءًا أساسيًا من حياته، فقد كان يبدأ نهاره بتناول الثوم والبصل لتعزيز مناعته، ومن ثم يمارس رياضة المشي داخل أماكن مغلقة، فلم يكن اختفاءه عن الناس حاجزا له عن ممارسة الرياضة والتكاسل عنها.
وكان "الضيف" يحثّ من حوله قائلًا "قوموا إمشوا، المشي صحة" رغم عدم قدرته على المشي بشكل سليم، بسبب إصابته في قدمه في إحدى محاولات اغتياله، ويجلس في شمس الصباح كل يوم"، تقول "صيام".
وظهرت عائلة الضيف لأول مرة عقب إعلان استشهاده نهاية الشهر الماضي، في مكان سكنها ببيت متواضع ويحياة بدائية كباقي أهالي قطاع غزة الذين أنهكتهم الحرب.
طبيبة زوجها..
وعقب استشهاد زوجها، كشفت "أم خالد" طبيعة بعض الإصابات التي أصيب بها باستهدافات إسرائيلية سابقة، مشيرة إلى أن أخطرها كان باستهداف عدد من القادة في منزل أبو سلمية عام 2006، واستشهدوا جميعهم فيما أصيب هو إصابة بالغة في ظهره.
وتقول: تعرض جسده للحروق بشكل كبير، وفقد عينه، وكنت أطبب جراحه، تعلمت كيف أعطيه الإبر وأضمد جراح عينه التي فقدها وأعطيه علاجه بمعاده".
وتضيف: "كانت إصابته خطيرة جدًا، أراد اليهود أن يكون مشلولًا، لكن الله نجّاه، ومكثنا نحو عام تحت الأرض لعلاجه والاهتمام به.