في غزة، كان صباح أول يوم من عيد الأضحى له طقسٌ خاص لا يُشبه أي صباح آخر، يُذبح الخروف باكرًا، تُقطّع الأحشاء، وتُطهى "المعلاق" على عجل، وتُقدَّم على مائدة العائلة مع صحن حمص وخبزٍ ساخن خارِج من الفرن، الرائحة وحدها كانت كفيلة بإيقاظ البيت كله، والفرح كان يبدأ من تلك الوجبة الأولى.
لكن اليوم، لا خروف يُذبح، ولا معلاق يُطهى، ولا حمص يُهرس، ولا حتى رغيف يُقسَّم، اليوم، صباح العيد يشبه أي صباح نزوحٍ آخر، بارد، صامت، ومُذل، الناس يستفيقون على الجوع، لا على رائحة الطهي، الأطفال لا يُنادَون إلى المائدة، بل يُسكتون لأن لا طعام في الأصل، بل إنّ أمهات كثيرات لا يجدن حتى خبزًا يقدّمنه.. لا للعيد، ولا للجوع.
في خيام النزوح، يُفتقد كل شيء، حتى التفاصيل الصغيرة التي كانت تصنع طعم العيد، لا صباح خاص لهذا العيد.. فقط صباح آخر من الغصّة.
سلّطت "وكالة سند للأنباء"الضوء على واقع عيد الأضحى في غزة، معيدةً ذاكرة الناس إلى أيام كانت فيها موائد العيد عامرة بالمعلاق والحمص، وأصوات الضحكات تملأ البيوت. في ظل الحرب والنزوح، تحولت هذه الذكريات إلى أوجاع صامتة تعكس حجم الحرمان الذي يعيشه الناس في ثاني عيد أضحى بلا أجواء العيد الحقيقية.
"إحنا انذبحنا"..
جلست الشابة فاطمة الدايةداخل خيمة مصنوعة من القماش المهترئ، نصبوها على عجل فوق ركام بيتها شرق غزة، لا شيء يوحي أن هذا اليوم هو عيد الأضحى، لا زينة، لا أضحية، ولا حتى رائحة لحمة، تقول بنبرةٍ من السخرية: "العيد؟ أي عيد؟ بس مجرد يوم إضافي في النزوح، يوم نعدّ فيه الخبز اليابس ونحاول نخدع جوعنا."
تسكت للحظة، ثم تسترجع ذكرياتها وكأنها تشم رائحة بعيدة: "كنا أول يوم عيد نصحى من الفجر، نجهّز حالنا للذبح، والرجال يكونوا برّة بيذبحوا، وإحنا جوّا نجهز المعلاق، كانت أمي تطبخوبإيدها، ومعاهصحن حمص، وخبز طالع من الفرن، سخن، ريحتو لحالها تعبي الحارة، أقسم بالله، كانت ريحة المعلاق تفيقنا من النوم، وكنا نحس إنّو العيد دخل بيتنا من الباب الكبير".
تسرد "الداية"، اليوم صحيت على صوت الطائرات، وعلى بكاء الأطفال اللي مش لاقيين مية يشربوها، وولاد الجيران صاروا يطلبوا قطعة خبز من أمي، بدل ما يطلبوا عيدية."
وتعبر ضيفتنا، "لا أحد في الخيمة يذكر شيئًا عن فرحة، كل ما هنالك هو حنين مكسور، وأمنيات بسيطة لم تعد متاحة، أمنية العيد مش فستان أو عطر، بس شربة مي نظيفة، وسقف نحتمي تحته من الطيران."
أما شهد أبو مرزوق لا يختلف حالها كثيرًا عن "الداية"، تجلس إلى جوار والدها الجريح في مستشفى ميداني أقيم داخل مدرسة مهدمة، تمسح العرق عن جبينه وتقول: "هالعيد الثاني إلي وأنا مش قادرة أقول كل عام وأنتم بخير، ما شبعت ولا ليلة من وقت التهجير، وكل يوم بنقول يمكن نرجع، بس بدل ما نرجع، بنبعد أكتر."
شهد فقدت منزلها في بيت حانون، تتنقل بين المدارس مع إخوتها، وتنام على بطانية رطبة لا تقي من أي شيء، توضح: "قبل الحرب كنت أجهز الكعك مع أمي، ونخطط وين نروح في أول أيام العيد، اليوم بنخطط كيف نجيب علبة سردين، وكيف نقنع الطفل الجوعان إنه بكرا العيد أحلى."
تسكت لحظة ثم تكمل:يا ريت لو العيد بيعدي عن غزة، العيد صار عبء، ووجع جديد فوق وجعنا."
"شو يعني لحمة؟".
ضحكت الحاجة بسخريةإم محمد المغربي عندما سألناها عن العيد وذكرياته، تقول: "شو يعني لحمة وشو يعني عيد، زمان كنا نعد لحمة الأضحية ونفرّقها على الجيران، هالعيدبنعدّ أولادنا نشوف مين عايش ومين مات بالقصف."
بيتها احترق، وأحفادها تفرقوا بين المخيمات، ولا تملك سوى كيس خبز يابس وحفنة زعتر يابس تخبئهم في كيس نايلون، تقول بصوت مشقق من التعب: "حفيدي سألني اليوم: يا ستي متى بنرجع بيتنا؟ قلتله: لما العيد يرجع عيد."
تكمل وهي تمسح دموعها بطرف شالها القديم:"ما ضل معنا شي نطبخه، ولا معونة وصلتنا من أسبوع، بس الضحكة، حتى الضحكة، انحرمت منها."
"لا شيء يشبه عيدنا"..
يقف أبو ياسر الشوا (42 عامًا) أمام خيمته في حي الشيخ رضوان يحمل بيده علبة سردين فارغة وينظر إلى أطفاله الثلاثة وهم يتشاجرون على آخر قطعة خبز، في عينيه شيء يشبه الانكسار، وفي صوته غصّة لا تخفى، يقول: "أنا اللي كنت أضحي كل سنة، وأعزم الجيران، وأوزّع لحمة حتى على الناس اللي ما بعرفهم.. اليوم مش قادر أشتري لقمة لأولادي."
يتحدث عن أيام العيد السابقة وكأنها تعود إلى زمن بعيد، يصفها بشوق مرّ: "كنا نشتري الخروف قبل العيد بأسبوع، نربطه قدام البيت، ونحضّر له الأكل، والولاد يضلوا حوالينه يضحكوا ويمسحوا عليه، كنت أجهّز لكل واحد من أولادي طقم جديد، وأوصي الكعك من بدري، أما هالسنة؟ ما قدرت أوفّر الأمان لولادي".
ينظر إلى ابنه الأصغر، ويكمل بخجل: "العيد صار عبء نفسي عليّ، لأني بحس حالي مش قادر أكون أب زي ما لازم أكون في هاد الوضع الصعب، صاروا ولادي يعرفوا إنو أبوهم مش قادر."