أصدر الأطباء البريطانيون الذين عملوا في غزة أثناء حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية التي استمرت أكثر من 15 شهرا، تنبؤات قاتمة بشأن الحالة الصحية للمدنيين الفلسطينيين على المدى الطويل، محذرين من أن أعدادا كبيرة سوف تستمر في الموت.
وقالت صحيفة الغارديان إن انتشار الأمراض المعدية والمشاكل الصحية المتعددة المرتبطة بسوء التغذية، إلى جانب تدمير المستشفيات وقتل الخبراء الطبيين، يعني أن معدلات الوفيات بين الفلسطينيين في غزة ستظل مرتفعة بعد توقف القصف الإسرائيلي.
وقال جراح التجميل البريطاني الفلسطيني البروفيسور غسان أبو ستة، الذي عمل في مستشفى الشفاء ومستشفى الأهلي العربي في مدينة غزة بعد وقت قصير من بدء الحرب، إن مستويات سوء التغذية هناك كانت حادة لدرجة أن العديد من الأطفال "لن يتعافوا أبدا".
وقدر العلماء أن إجمالي عدد الضحايا نتيجة للحرب الإسرائيلية على غزة قد يصل في نهاية المطاف إلى 186 ألف شهيد. وهذا الرقم أعلى بنحو أربعة أمثال من 46700 شهيد أعلنته وزارة الصحة في غزة.
إبادة النظام الصحي
قال البروفيسور نظام محمود، وهو جراح زراعة أعضاء بريطاني متقاعد من هامبشاير عمل العام الماضي في مستشفى ناصر في جنوب غزة، إن عدد "الوفيات غير الناجمة عن الصدمات" قد يكون في نهاية المطاف أعلى بكثير من 186 ألف حالة.
وأضاف أن أحد العوامل كان استهداف العاملين في مجال الرعاية الصحية خلال الحرب.
وذكر أن من بين ستة جراحي أوعية دموية كانوا يغطون شمال القطاع، لم يبق سوى واحد فقط. ولم يبق أي أخصائي في علم أمراض السرطان على قيد الحياة.
وقال أبو ستة إن فرقاً كاملة من المتخصصين الطبيين تم إبعادها من غزة، وإن التدريب المطلوب لاستبدالهم سيستغرق ما يصل إلى 10 سنوات.
وأوضح "لقد تم استئصال بعض التخصصات، ولم يعد هناك المزيد من أطباء الكلى. لقد قُتلوا جميعًا. ولم يعد هناك المزيد من أطباء الطوارئ المعتمدين".
وقال جراح التجميل البالغ من العمر 55 عاما من لندن إن الصحة طويلة الأمد لسكان غزة تعتمد على سرعة إعادة بناء القطاع والبنية التحتية فيه.
وفي الأسبوع الماضي، بدأ آلاف الفلسطينيين العودة إلى شمال غزة ليجدوا أنفسهم أمام مشاهد الدمار الشامل بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من ممر استراتيجي يفصل شمال غزة عن جنوبها.
"ولكن لكي نتمكن من إقناع الأطباء بالعودة إلى الشمال، يتعين علينا توفير المساكن لهم. أين سيعيشون؟ وأين ستعيش أسرهم؟"، كما يقول أبو ستة.
وقال إن أضرارا لا يمكن إصلاحها قد لحقت بالفعل بأعداد كبيرة من الأطفال.
وتابع "أظهرت الدراسات التي أجريت على الأشخاص الذين نجوا من الحرب العالمية الثانية أنهم أكثر عرضة للإصابة بالأمراض غير المعدية إذا كانوا يعانون من سوء التغذية في طفولتهم. كما أنهم أكثر عرضة للإصابة بمرض السكري وارتفاع ضغط الدم والسكري في سن الشيخوخة. لا أحد يتعافى من هذا المرض".
سوء التغذية الحاد
في الشهر الماضي، قدرت الأمم المتحدة أن أكثر من 60 ألف طفل في غزة سيحتاجون إلى العلاج من سوء التغذية الحاد في عام 2025. وقالت المنظمة إن بعضهم ماتوا بالفعل.
وهناك مصدر قلق آخر يتمثل في انتشار الأمراض، وهو ما يساعد على انتشاره تدمير البنية الأساسية مثل مرافق الصرف الصحي.
وقد قدم أبو ستة أدلة إلى المحكمة الجنائية الدولية بشأن ما شهده أثناء عمله في غزة. ووصف انتشار الأمراض هناك بالكارثة.
وقال "إن التهاب الكبد، وأمراض الإسهال، وأمراض الجهاز التنفسي، وشلل الأطفال الذي عاد إلى الظهور أثناء الحرب، سوف يستمرون في الانتشار، وذلك بسبب عدم وجود شبكة صرف صحي ومياه شرب نظيفة، وعدم وجود مساكن، وعدم وجود عيادات رعاية أولية. ولن يكون بوسعنا وقف أو حتى استئصال الأمراض المعدية".
وحذر من انتشار البكتيريا المقاومة للأدوية، وروى حالة عندما كان ستة من أصل سبعة مرضى عاينهم على التوالي مصابين "ببكتيريا متعددة مقاومة للأدوية".
وأضاف أنه بالإضافة إلى التأثيرات طويلة الأمد، فإن 13 ألف شخص من سكان غزة يحتاجون إلى تدخلات جراحية فورية بسبب إصاباتهم الناجمة عن الحرب.
وقال: "إن العدد الهائل من الإصابات المعقدة التي تحتاج إلى علاج يعني أنها ستستهلك النظام الصحي لجيل كامل".
وحشية استهداف الأطفال
أكد الطبيبان البريطانية أن الوحشية وعدد الإصابات التي شهداها أثناء عملهما في غزة يصعب المبالغة في وصفها.
وقال محمود، الذي أدلى بشهادته أمام أعضاء البرلمان البريطاني في لجنة التنمية الدولية في البرلمان البريطاني للتحقيق في الرعاية الصحية في غزة، إن ما يصل إلى 70% من الذين أجروا لهم عمليات جراحية كانوا من الأطفال.
وتابع "كان من المعتاد أن نستقبل طفلاً في العناية المركزة لمدة أسبوع، ثم يُقال لنا: "لقد قُتل والداه، وأشقاؤه. انتظروا وانظروا ما إذا كان أحد سيحضر لإنقاذهم". كان هذا أمراً شائعاً للغاية".
وقال أبو ستة إن نصف مرضاه هم من الأطفال، ورغم عمله في مناطق صراع عديدة بما في ذلك العراق ولبنان وسوريا واليمن، فإنه لم يقم قط بإجراء عمليات بتر كل يوم كما كان يفعل في غزة.
وحذر محمود من أن هناك مشكلة صحية حيوية أخرى على المدى الطويل وهي الندوب النفسية التي تتركها المعارك على السكان بعد 15 شهراً من القتال.
وقال "في الأشهر المقبلة، ستبدأ هذه القضايا في الظهور على السطح، لأن الناس يركزون فقط على البقاء على قيد الحياة يومياً. وعندما يزول هذا الضغط، فإن التأثيرات النفسية سوف تتجلى في كل أنواع الطرق".