في قلب غزة المحاصرة، حيث تتداخل أصوات القصف مع أنين المعاناة، تقف بيوت شامخة بأعمدتها ظاهريا، لكنها في حقيقتها أسيرة الجدران المتصدعة، والأسقف المتهالكة، والأساسات الواهنة، منذرة بكارثة وشيكة.
وخلف هذه الهشاشة، تتجسد معاناة أسر مؤلمة، تجد نفسها مرغمة على السكن تحت "سقف الموت"، لا تملك خيارًا آخر يحمي أطفالها من قسوة البرد، ولفح هوائه البارد، أو حتى من خطر الانهيار المفاجئ.
"أخاف على أولادي في كل لحظة"، يقول حمدان ياسين بصوت خافت بينما يشير إلى شقوق واسعة تتسلل منها قطرات المطر إلى غرفة نوم أطفاله، فمنزله الصغير في حي الزيتون، تحوّل بفعل القصف الإسرائيلي إلى هيكل هش، يئن تحت وطأة حرب ضروس.
يقول ياسين لـ"وكالة سند للأنباء":"فش مكان تاني نروح عليه، ومابدنا نرجع للخيم، هذا بيتنا هو كل ما نملك، رغم خطورته".
ويتابع:" البيت الذي أسكن فيه حاليا، تعيش فيه خمس عائلات، 30 فردا بين أعمار كبيرة نساء ورجال أطفال وكبار، وكلنا ننام في غرفة واحدة، وحجارة السقف تتساقط علينا بين حين وآخر، خايفين يوقع علينا السقف".
تحت رحمة جدران متهالكة..
قصة الفلسطيني ياسين تتكرر في أزقة غزة الضيقة المكتظة بالبيوت المقصوفة كليا أو جزئيا، فعائلات بأكملها تعيش تحت رحمة جدران قد تنهار في أي لحظة، تحاصرها خيارات قليلة كلها مريرة.
تحدثنا صاحبة أحد المنازل المدمرة جزئيًا، زكية أحمد: "نعيش في حالة من الرعب كلما اشتدت الرياح، لا نعرف إن كانت الجدران المتصدعة والمدمرة ستصمد أم ستنهار علينا".
وتردف بيأس :"الدرج لا يوجد له سور ولا حماية على جوانبه، كل طفل يصعد الدرج معرض للسقوط، غير أن الأعمدة مائلة والجدران مشققة، لكن كله يهون أمام السكن في خيمة".
وتردف: "احنا مش مجرد أرقام في إحصائيات، احنا بشر إلنا الحق في العيش بأمان وكرامة".
غياب الحلول البديلة
ودمرت حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين أول 2023، آلاف الوحدات السكنية، فيما يعاني ما تبقى منها من نقص مواد البناء اللازمة للترميم، بسبب إغلاق الاحتلال للمعابر.
واتخذ المئات من المواطنين، ركام منازلهم المدمرة بشكل كامل مأوى لهم في ظل الدمار الواسع الذي حل بالقطاع خلال أشهر الإبادة، وقدره المكتب الإعلامي الحكومي بنحو 88%.
وتزداد هذه التهديدات في ظل التنصل الإسرائيلي من الالتزام بالبروتوكول الإنساني من اتفاق وقف إطلاق النار بغزة، والذي ينص من بين بنوده على إدخال المعدات الثقيلة لإزالة الركام وتسوية المباني المدمرة والبيوت المتنقلة لإيواء النازحين.
وحالت عناية الله دون حدوث كارثة في مناطق شمال قطاع غزة مؤخراً، إذ جرى إخلاء سكان 3 أبراج في منطقة "الكرامة"، في محافظة شمال القطاع، بعد انهيار جزئي في أحدها، في وقت متأخر من الليل، إذ قامت طواقم الدفاع المدني بإخلاء سكان أبراج 8، و10، و11 في منطقة الكرامة، وذلك عقب انهيار جزئي في برج 9، الذي كان غير مأهول بالسكان.
وأكد الدفاع المدني، أنه جرى إخطار سكان الأبراج المُخلاة بضرورة عدم العودة أو الاقتراب منها، نظراً للأضرار البالغة التي تعرضت لها خلال العدوان الإسرائيلي، ما جعلها غير صالحة للسكن.
كما جرى تحذير النازحين الذين يعيشون في خيام في المنطقة المُحيطة بإخلاء المنطقة فوراً، نظراً لخطورة المباني المتضررة المجاورة، واحتمال انهيارها في أي لحظة.
وسادت حالة من الخوف والقلق في المنطقة، وأخلى سكان محيط الأبراج المذكورة، حيث أكد مواطنون أن الاحتلال تعمّد ترك الأبراج آيلة للسقوط مُتداعية، ولم يقم بتدميرها، حتى تنهار في وقت لاحق، وتُشكّل خطراً على المواطنين.
نائب رئيس لجنة الطوارئ في وزارة الأشغال العامة والإسكان ومسؤول ملف حصر الأضرار في قطاع غزة محمد عبود، يوضح أن تقديرات إعادة إعمار الوحدات السكنية المدمرة كليا مع ملف إزالة الركام تكلف قرابة الثلاثين مليار دولار، فقط في قطاع الإسكان.
ويضيف "عبود"، في حديثه لـ"وكالة سند للأنباء"، أن لجنة الطوارئ قامت منذ اليوم الأول للإبادة الجماعية بحصر الأضرار التي وصلت إلى 250 ألف وحدة سكنية غير صالح للسكن بشكل كلي من أصل 280 ألف وحدة سكنية متضررة بشكل كلي أو بليغ.
وأكد أن إجمالي الأضرار الكلية والجزئية للوحدات السكنية غير الصالحة للسكن، بلغت 280 ألف وحدة سكنية، وكان دمار الوحدات السكنية الأكبر بمدينة غزة بنسبة 31%، تلتها الوحدات السكنية في الشمال بنسبة 26%.
ويشير نائب رئيس لجنة الطوارئ، إلى أن نسبة الوحدات السكنية المدمرة في محافظة خانيونس بلغت 22%، فيما وصلت النسبة في المحافظة الوسطى 13%، ورفح 8%.
ووفقا لتقارير دولية فإن المتفجرات التي ألقيت على القطاع فاق حجمها وقوتها التدميرية القنبلتين النوويتين اللتين ألقتهما الولايات المتحدة الأميركية على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتان في الحرب العالمية الثانية.
وأكدت عدة بلديات أنه لا يوجد بيت في القطاع لم يتضرر وبشكل متفاوت، بين هدم كامل وضرر كلي يستوجب الإزالة، وضرر جزئي بليغ، وأضرار خفيفة تقتصر على تكسير الشبابيك والأبواب.