الساعة 00:00 م
الأحد 18 مايو 2025
22° القدس
21° رام الله
21° الخليل
25° غزة
4.72 جنيه إسترليني
5.02 دينار أردني
0.07 جنيه مصري
3.97 يورو
3.56 دولار أمريكي
4

الأكثر رواجا Trending

استهداف "الأوروبي" ضاعف مأساتهم.. الاحتلال يحكم بإعدام 11 ألف مريض سرطان في غزة

ما بعد "ألكسندر".. توافق تكتيكي بين "حماس" وواشنطن أم بداية مسار معقّد؟

سيّد السفرة.. غزة تفتقد نكهة صباحاتها المعتادة في العيد

حجم الخط
الفسيخ
غزة – إيمان شبير – وكالة سند للأنباء

في غزة، لا يُقاس العيد بالزينة ولا بالملابس الجديدة، بل برائحة الفسيخ المتغلغلة في الأزقة، بطقطقة الزيت الساخن في صباح أول يوم، بقلاية البندورة التي تواسي ملوحته الحادة، وباللقمة الأولى التي تُعلن بدء الاحتفال بطقوس توارثتها الأجيال.

لكن هذا العام، كما العام السابق اختفى الفسيخ من موائد العيد، تمامًا كما اختفت أشياء كثيرة من حياة الغزيين، الحرب لم تسرق الأرواح فحسب، بل جرّدت العيد من نكهته، ودفعت العائلات إلى البحث عن بدائل لا تشبه الأصل، لكنها تحاول أن تبقي شيئًا من الطقوس حيًا، ولو كان وهمًا.

في هذا التقرير، تغوص "وكالة سند للأنباء" في ذاكرة العيد كما كان، وترصد كيف تحوّل الفسيخ من طبق رئيسي إلى حلم بعيد المنال، وسط مجاعة تخنق غزة حيث تندر المواد الغذائية وترتفع الأسعار بشكل جنوني، فيما تغيب المساعدات عن موائد أنهكها الجوع، تحاول العائلات التمسك ببقايا العادات، حتى لو كانت عبر "فسيخ المعلبات"، في محاولة يائسة لصنع أجواء العيد المفقودة، بينما الحقيقة الأكثر قسوة هي أن كثيرين لا يجدون ما يسدّ رمقهم، لا في العيد ولا في سائر الأيام.

ويفاقم الحصار الإسرائيلي على غزة أزمة الغذاء، إذ يواصل جيش الاحتلال منع الصيادين الفلسطينيين من دخول البحر، مستهدفًا كل من يحاول الصيد، وفي مدينة لطالما ارتبطت موائدها بالأسماك، بات الحصول عليها ضربًا من الرفاهية، ما جعل الفسيخ -أحد أبرز أطباق العيد- يختفي من الأسواق أو يتوفر بأسعار خيالية تفوق قدرة العائلات المنهكة.

"معلبات من الفسيخ"..

تقول أم أحمد كحيل من شمال قطاع غزة، "كان صباح العيد لا يحلو إلا برائحة الفسيخ، رائحة كانت تتسلل إلى الأزقة قبل أن تستيقظ الشمس، تمتزج بتكبيرات العيد وأصوات الأطفال المنتظرين العيدية، كنا نبدأ التحضير له قبل العيد بأيام، نختاره بعناية، نقلبه، نشم رائحته المالحة، ونقلبه بين أيدينا كأنه كنز ثمين، وفي الليلة الأخيرة من رمضان، كنا ننقعه في الماء، نغيّر مياهه أكثر من مرة، حتى تخف ملوحته، وتصبح نكهته متزنة بين الحدّة والطراوة.

أما صباح العيد، فكان الاحتفال الأول يبدأ في المطبخ، نُخرج الفسيخ من الماء، نجففه قليلًا، ثم نغمره في الزيت الساخن، فنسمع طقطقته المميزة، ونشم رائحته التي تُعلن العيد من أول لقمة، إلى جانبه، كانت قلاية البندورة، التي لا يمكن أن يكتمل العيد بدونها، الطماطم تُقطع شرائح وتُرمى في المقلاة بزيت الزيتون، ثم تُضاف إليها حبات الفلفل الأخضر الحار، وكلما نضجت أكثر، زادت الرائحة إغراءً، وحين يجتمع الفسيخ مع القلاية والخبز الطازج، نشعر أن العيد قد حل فعلًا، بلا خطب، بلا كلمات، بل بلقمة واحدة تشبه غزة في قوتها ونكهتها الأصيلة."

ثم تصمت قليلًا، قبل أن تتابع بنبرة يملؤها الألم: "اليوم؟ لا فسيخ، لا رائحة زيت، لا طقطقة، لا شيء يشبه العيد، الأسعار نار، والفسيخ صار رفاهية لا يقدر عليها إلا قلة، صرنا نعيش أجواء الفسيخ الكاذبة، لم نعد نشتريه، فالمئة شيكل التي كانت تكفي لشراء الكمية التي تسد جوع العائلة، لم تعد تكفي اليوم حتى لشراء القليل منه".

وتتابع "كحيل"، "اضطررنا إلى البحث عن بدائل، فأصبحنا نصنع فسيخًا من المعلبات! نفتح علبة سردين، نضيف لها كميات كبيرة من الملح، نتركها أيامًا حتى تتخمّر، ثم نقليها في الزيت علّها تخدع أذواقنا، علّها توهمنا أن شيئًا من طقوسنا القديمة لا يزال هنا، حتى قلاية البندورة التي كانت الرفيقة الدائمة للفسيخ، لم تعد كما كانت، فالبندورة شحيحة، والزيت قطرة غالية نحسب لها حسابًا".

وتسرد بنبرة موجعة: "كل شيء تغيّر، حتى نكهة العيد أصبحت باهتة، كأنها نسخة شاحبة لما كان، العيد ليس بثياب جديدة ولا بحلوى، العيد كان في التفاصيل، في لقمة الفسيخ المغموسة بقلاية البندورة، في الضحكات التي كانت تعلو بعد اللقمة الأولى، عندما يبدأ الجميع بالبحث عن الماء بسبب الملوحة، اليوم؟ حتى هذا العطش لم يعد كما كان، لأننا بالكاد نجد ما نأكله، فكيف نجد ما نشتهي؟".

"طقوس مفقودة"..

تعبر الصحفية منى الأميطل عن شوقها العارم لعيد طبيعي، تمارس فيه طقوسها كما اعتادت، تتحدث عن لحظة شراء الشوكولاتة ليلة العيد، طقس شخصي لا تتخلى عنه، حيث تختار قطعها المفضلة بعيدًا عن تلك التي تشتريها للعائلة، تحتفظ بها في جيبها يوم العيد، حتى ينتهي بها الأمر بإصابتها بالمغص، لكنها تبتسم عند استعادة تلك الذكرى، وكأنها جزء لا يتجزأ من فرحة العيد.

وتعود بذاكرتها إلى صباحات العيد الماضية، عندما كانت جارتها تستيقظ قبل السابعة صباحًا لتحضير الفسيخ، ناشرة رائحته في الحي، كان هذا الطقس جزءًا من الإحساس بالعيد، وكان الفسيخ يُنقع في الماء منذ الليلة الأخيرة من رمضان، ليُطهى صباح العيد مع قلاية البندورة والبطاطا، مانحًا اليوم بهجته الخاصة.

وتستذكر "الأميطل"، "أجواء ليلة العيد، حين كان صوت "يا ليلة العيد آنستينا" يتردد في الأرجاء، بينما شوارع معسكر جباليا تكتسي بالنور، اليوم، تمر الأعياد في العتمة، ثلاثة أعياد متتالية، والقلب مثقل بالقهر، قهر لا دواء له.

وتسرد "الأميطل"، "ترتبط ذاكرة العيد لدي برائحة الفسيخ التي تعبق في الأجواء صباحًا، وأيضًا بآخر فطور في رمضان، أحب رائحة الفسيخ حد العشق، وأرى فيه رمزًا لعيد لا يكتمل إلا به، وكنت أحب رؤيته مصفوفًا في الأسواق، بلونه الأصفر المميز، لكن هذا العام كل شيء تغيّر، اختفى الفسيخ من الأسواق، وإن وُجد، فهو نادر وباهظ الثمن".

وتشير "الأميطل"، إلى التغيرات القاسية التي طرأت على موائد العيد، تقول: "تحوّلت بعض الأطعمة الأساسية إلى كماليات، اليوم، يصبح مجرد توفر الخضار سببًا لحمد الله، وحتى المعلبات تُعتبر إنجازًا".

تضحك بمرارة وهي تذكر أن سعر كيلو الفسيخ تجاوز 100 شيكل، وتعلق ساخرة بأنه سعر للسياح، في حين أن العائلات ما زالت تتردد في شرائه، بعد أن اعتادت تحضير السمك المعلب بطرق أخرى، حتى بات طعمه يبعث على الملل.

وتكشف "الأميطل"، عن ظاهرة جديدة، حيث لجأت بعض العائلات إلى تمليح علب السمك الجاهزة واستخدامها كبديل للفسيخ، تراه محاولة لاستعادة نكهة العيد رغم الظروف، لكنها تعلم في قرارة نفسها أن لا شيء يشبه طعم الفسيخ الحقيقي.

وتتحسر ضيفتنا قائلة: "كل شيء تبدّل بعد الحرب، حتى طقوس الفسيخ التي قد تعود يومًا، لن تكون كما كانت، أشعر أن النكهة الحقيقية للأشياء ليست في مذاقها، بل في الذكريات التي تحيط بها، كيف يمكن لعائلة متوسطة أن تنفق 300 شيكل، أي ما يعادل 100 دولار، على الفسيخ في ظل الغلاء الفاحش؟ الأولوية اليوم لم تعد للمذاقات المعتادة، بل لما يسدّ رمق العائلة، وسط واقع يفرض حسابات جديدة لكل شيء".

"بهجة غائبة"..

تقول الصحفية فاتن الحميدي: "لطالما تمنيت أن يزورنا عيد الفطر هذا العام وقد حُقنت دماء أهل غزة، وأن يحظوا ببعض الأمن وهداة البال، حتى نتمكن -على الأقل- من تنسم بعضًا من بهجة غائبة.

وتضيف "الحميدي"، "هذا العيد الثالث الذي يمر علينا تحت أزيز الموت، وعيد الفطر الثاني الذي نستقبله بعد شهر رمضان بقلوب خفف عنها الشهر الفضيل بعض التعب الخفي، لكن الوجع في قلوب المكلومين أكبر".

وتسرد، "كنا قبل الحرب نتجول في الأسواق آمنين مطمئنين، نتسابق للحصول على الشوكولاتة و"الفسيخ"، كانت طقوس العيد مرتبطة بالفسيخ لدرجة كبيرة، هي تفاصيل بسيطة لكنني أفتقدها، أفتقد حين كانت أمي تذكرني كل وقت: "ما تنسي تغيري ميّة الفسيخ، بلاش ما نعرف نذوقه"، وكالعادة كنت أتذكر مرة وأنسى مرات".

وتُكمل، "في صبيحة يوم العيد، كنت أصلي في غرفتي وأخرج على رائحة الفسيخ وصوت قليه في الزيت، وأصوات التكبيرات والأطفال، ولخمة العيد في أول لحظاته، أما هذا العام، فقد سَكَن هذا الضجيج، وهدأ صوت البهجة، لم أشتم رائحة الفسيخ، ولم يخرجني صوت القلي من غرفتي.

وتضيف "الحميدي"، لقد حرمتنا حرب الإبادة الجماعية الطعام والشراب، وما توفر الآن لا يتعدى بعض الأغراض الأساسية وبأسعار مهولة، لم يتوفر الفسيخ هذا العام ولا الذي سبقه، ولا حتى أي نوع سمك يصلح لأن يُجهَّز في المنزل، حتى السمك العادي أسعاره لا تقل عن 120 شيكلًا للكيلو الواحد، بعدما كان لا يتعدى 10 شيكل قبل الحرب، وإنْ توفر كل هذا؟ أين الغاز الذي سيُطهى عليه؟ كلها دوامة مترابطة، إن وجدت شيئًا فقدت الآخر، وهلمّ جرًا".

وبحسرة تختم" أما الآن، فننتظر العيد ليأتي فقط كشعيرة نُحييها، لا فسيخ، ولا أجواء تحضيرات الكعك، ولا وهج القلوب الذي كان ينتظر بشوق، في ظل شلال الدماء المنسكب".