لم تكن تعلم أن يوم 17 نيسان/أبريل 2024 سيحفر في ذاكرتها للأبد، إخلاص الكفارنة، ذات الأربعة والثلاثين عامًا، فقدت زوجها في لحظة لم تكن مستعدة لها، لم يكن رحيله خبرًا يُقال، بل وجعًا استقر في صدرها ولم يخرج. كانت تعرفه جيدًا: لا يتأخر عنها، لا يغيب دون أن يترك أثر دفء، لا يسمح للحزن أن يمر بها دون أن يقف بينه وبينها، وحين استشهد، شعرت أنها تُنتزع من جذورها، أنها وحدها في هذا العالم، بلا صوت يواسيها، بلا عين تعرفها.
وفي الوقت الذي كانت بحاجة فيه لأمها أكثر من أي وقت مضى، كان فقدانها يؤلمها كالجروح المفتوحة، كانت تحتاج إليها كي تمسك بيدها وتقول لها: "ستجتازين هذه المحنة"، لكن والدتها كانت قد رحلت منذ عام 2016، تاركةً خلفها غيابًا لا يمكن تعويضه، كانت تشعر بألم الفقد مُضاعفًا، لأنه في تلك اللحظات كانت تحتاج إلى قوة قلب أمها.
وبينما كانت إخلاص تستجمع شتات نفسها بعد فقدان أمها وزوجها، جاءتها صدمة أخرى كانت أشد وقعًا من سابقتها، في ذات الشهر بعد عام، جاء الفقد الأكبر، فقدان والدها الذي كان يمثل لها الحماية والأمان، هو السند الذي لطالما اعتمدت عليه في أصعب اللحظات، ظنّت أن لا شيء يمكن أن يكون أكثر قسوة من وداع زوجها.
ولكن فجأة، وبدون أن تدرك، جاءها الخبر الذي زلزل عالمها، استشهاد والدها، في نفس الشهر الذي فقدت فيه شريك حياتها، كان كالصاعقة التي هزّت أعماق قلبها، ليضيف حزنًا آخر لم تعتد عليه، ويزيد من ثقل الفقد الذي بدأ يثقل كاهلها، لكن الألم لم يتوقف عند هذا الحد، إذ فقدت أخاها أيضًا في اليوم ذاته، ليصبح هذا اليوم بداية فصل جديد من الحزن، حيث تراكم الفقد في لحظة واحدة.
"وكالة سند للأنباء" حاورت إخلاص محمد نازك الكفارنة، المرأة التي عاشت تجربة فقدان الأحبة في أوج الصراعات، واستطاعت أن تظل صامدة رغم الألم العميق الذي يرافق كل ذكرى، إخلاص هي ابنة محمد نازك الكفارنة، رئيس بلدية بيت حانون، الذي استشهد في مجزرة دار الأرقم بحي التفاح شرق مدينة غزة، والتي أودت بحياة 29 شخصًا وأصابت العديد.
"الصدمة تطوقني"..
تُعبّر إخلاص الكفارنة، "في السابع عشر من أبريل 2024، لحظة غادرت فيها حياتي تفاصيل لم أعد قادرة على تذكرها كما كانت، زوجي، ذلك الذي ذهب إلى نقطة "نت"، ليُحمّل كارتون من الرسوم المتحركة للأطفال، كان مجرد أمر عادي، لكن ما حدث بعدها لم يكن سوى بداية لغدٍ مرير، كل شيء تغير في تلك الساعة".
وعن شعور اللحظة تسرد: "أذكر جيدًا اللحظة التي تلقيت فيها الخبر، كان الوقت في الصباح، وكنت في المنزل مع أولادي، لم أكن أعتقد أن الحياة ستتحول إلى هذا الحد، ولم أكن مستعدة لهذا الألم الذي هز كياني، وصل الشباب ليخبروني، وكنت أتوقع أي شيء إلا هذا، كانت الصدمة تطوقني، ومعها شعرت بالعجز، ولكن مع اللحظة، لَمسني شيء غريب، شيء من الله، شعرت أنني، رغم الحزن، يجب أن أتماسك، أن أظل ثابتة".
وتُكمل "الكفارنة"، "لقد بذلت نفسي لأكون قوية، ليس فقط لأجلي، بل لأجل أولادي الذين كانوا في ذلك الوقت أكثر حاجة إليّ، شعرت أنني لو صرخت أو أظهرت ضعفي أمامهم، فذلك سيكون بمثابة انهيار آخر لا أستطيع تحمله، حاولت أن أكون قوية، ليس فقط ظاهريًا، بل من الداخل أيضًا، كنت أقاتل دموعي بكل ما أملك".
وتُعبّر بعد تنهيدة مؤلمة: "لحظات كثيرة مرت في صمت، وأحيانًا كنت أضع يدي على قلبي وأحاول أن أستعيد قدرتي على التنفس، لكن كان شيء من السلام يعم قلبي، السلام الذي يأتي بعد معركة مع النفس، الحمد لله، كان هناك جزء في داخلي يذكرني بأن الله سبحانه وتعالى اختارني لهذا الأمر، وأنه ليس من دون حكمة، وفي الوقت الذي كنت أرى فيه أنني لا أستطيع تحمل ما مررت به، كنت أجد في نفسي عزيمة أكبر".
ماذا عن صفات حَبيب روحكِ عبد المجيد؟ تُجيبنا بعدما ترقرق الدمع في عينيها: "أتذكر جيدًا كيف كانت علاقتي بزوجي وعلاقته بوالدي، كانت علاقة أشبه بالصداقة الحقيقية، كان والدي يراه كابن له، وكان يعاملني كأني ابنة، وكم كانت تلك اللحظات التي قضيناها معًا تملؤني حبًا وثقة، عبود كما أحب أن أناديه عطوف، حنون جدا، لطيف، وذكي".
وتضيف "الكفارنة"، "بعد استشهاد زوجي، كانت الأيام تأخذني في دوامة من الوحدة والمشاعر المتضاربة، لكنني عاهدت نفسي أن أكون قوية، لأبقى ثابتة في وجه التحديات، لأكون للأيتام سندًا، ولأكون لأطفالي أملًا في الحياة، في كل لحظة كنت أتذكر أن هذا قضاء الله وقدره، وأنه لا شيء في الحياة يستمر إلى الأبد، وأن الحكمة في كل ما يحدث".
وتُتابع ضيفتنا: "زوجي كان جزءًا مني، لم يكن فقط زوجًا، بل كان رفيق درب، ونصف روحي، كل لحظة معه كانت مليئة بالحب والطمأنينة، كنا معًا في كل شيء، في الحزن قبل الفرح، في الأوقات الصعبة قبل السهلة، حتى في الأوقات التي كنا نمر بها كعائلة، كنا نجد دائمًا طريقة لنبتسم معًا."
تتوقف لحظة، وتبتسم بحزن، وكأنها تذكر صورة واضحة في ذهنها: "أتذكر تمامًا أول مرة قررنا أن نأخذ عطلة قصيرة مع الأطفال، فقط لنجلس معًا دون أن نفكر في كل شيء، في الحرب، في الحياة الصعبة التي نعيشها، كانت تلك اللحظات نادرة، لكنه كان دائمًا يحاول أن يخلق لنا لحظات من السعادة، حتى عندما كان يعود من العمل، كان يظل مبتسمًا رغم كل التعب، ليقول لي: 'ما في شيء في الدنيا أهم منكم".
تسترجع لحظة فراقه، وعيناها تملؤها الحزن: في يوم 17 إبريل 2024، كان زوجي في طريقه ليشتري بعض الأشياء للأطفال، كان يريد أن يفرحهم قليلًا وسط هذا الظرف القاسي، خرج صباحًا وعاد الجميع، إلا هو لم يعد، كان الخبر صعبًا جدًا عليّ، كما لو أن الحياة توقفت فجأة، كنت في البيت مع الأولاد، وسمعت الخبر، في البداية، لم أصدق، ظننت أنني سأستطيع مواجهة الأمر، لكن الحقيقة كانت قاسية جدًا."
تتوقف للحظة، ثم تُكمل: "عندما رأيته، كان جسده ملقى على الأرض، لا شيء كان كما كان، كانت الدنيا كما لو أنها توقفت، عندما وصلني الخبر، كان في داخلي شيء يخبرني أنني بحاجة لأن أكون قوية، لأنه لو شعرت بالضعف، فإن أولادي سيفقدون كل شيء، كان عليهم أن يروا أمهم قوية، رغم أن قلبي كان ينهار."
تتذكر الأيام التي تلت استشهاد زوجها، وتسترجع تفاصيل محزنة بصوت هادئ، ولكن مليء بالقوة: "كانت أيامًا طويلة من الانتظار، والحزن، والتصبر، كان كل شيء يبدو غريبًا، كل زاوية في البيت تذكرني به، كل شيء كان يحمل بصمته، لم أستطع أن أصدق أنه لن يعود، لكنني كنت أذكره دائمًا أمام الأولاد، وكأنني أقول لهم: 'الوالد سيظل معنا، روحه لن تذهب بعيدًا".
وفي حديثها عن فقدان شقيقها أحمد في أواخر ديسمبر 2024، كانت تتذكر كيف كانت الأيام تمر على الرغم من الحزن العميق، كان والدها، رحمه الله، هو السند الوحيد في تلك اللحظات، حتى بعد أن فقدت أخاها، كان هو من أعطاها القوة للاستمرار، رغم أن الحزن كان يملأ قلبه هو الآخر، لكن لم يتوقف عن دعمها، وبتلك الكلمات.
وتضيف: "كنت دائمًا أقول لنفسي: "إن الله قد وضعني في هذا الاختبار، لابد لي أن أكون راضية، لأن هذا هو قدر الله، وإن كتب لي شيء فلا مفر منه، فحتى لو تذمرت أو بكيت أو لم أرضَ، فإن الأمر قد قُدّر ولن يغيره شيء، ومن هنا، اخترت أن أقول الحمد لله على هذا القدر الذي اختارني فيه".
وتُعبّر "الكفارنة"، لكن، الحقيقة أنه بعد فقدان أخي الثاني عدنان، شعرت بأن حياتي قد انكسر فيها شيء كبيرن كان عدنان بالنسبة لي كأخي التوأم، نشأنا معًا في نفس السنة الدراسية، وبيننا علاقة خاصة جدًّا، فقدانه كان مؤلمًا لدرجة لا توصف".
وتسرد: "كان عدنان هو سندي، كنت أعتبره درعي الأيمن في كل شيء، وعندما استشهد، شعرت أنه شيء عظيم في حياتي قد اختفى، ولكن الحمد لله على ما قدره الله".
"الأب السند"..
وفي الثالث من أبريل 2025، رحل والدها محمد نازك الكفارنة، تلك الهامة الكبيرة التي كانت تُمثل لها السند والعون، رحل في يوم من أيام أبريل، لكن هذه المرة، كانت الحروف تترنح تحت وطأة الحزن، فما بين تلك الأيام العصيبة، صار الألم يرفرف في قلبها كما لو أنه ظلٌ لا يفارقها.
وفي حديثٍ جمعهما قبل أن يغادر، تحدث إليها والدها كلمات محفورة في أعماق قلبها، (كل الجراح إذا داويتها برئت، إلا الفراق، فجرح غير ملتئم)، كأن تلك الكلمات كانت سابقة لما سيحدث في الأيام التالية، فالفراق، كما وصفه، جرحٌ لا شفاء له، كان يعرف في أعماقه أن الألم الناتج عن فقد الأحبة لا يشفى بمرور الزمن، تلك الكلمات بقيت في قلبها، تتردد كلما حاولت أن تلتئم جراحها.
تتذكره وهو يسند ظهرها في لحظات الضعف، وأذنه التي كانت دائمًا مستمعة، وكلماته التي لا تُنسى، وقدرة قلبه على أن يعطيها أملًا حتى في أشد اللحظات قسوة، كما كان يردد دائمًا، مستشعرًا ما يحمله الزمن من ألم: "يا إخلاص، كل شيء فاني إلا هذا الفقد، هذا الجرح الذي لا يمكن لأحد أن يلتئمه".
كيف كان وقع فقدان سندك "والدك" عليكِ"؟ تُجيبنا: "فقدان الوالد بعده كان أصعب مما يمكن تصوره، فقدت أبي الذي كان بالنسبة لي أكثر من مجرد أب، كان أمي وأبوي في نفس الوقت، لقد عاش حياته يقدم لنا الحب والحنان".
وتزيد "ضيفتنا"، "حينما علمت بموت أبي، كنت في حالة صدمة شديدة، لم أصدق الخبر لحظة، وقلت في داخلي: "يا رب، لا يمكن أن أصدق ذلك"، شعرت بأنني قد فقدت جزءًا كبيرًا من نفسي، ثم جاء خبر استشهاد أخي أحمد، وهي ضربة قاسية أخرى لقلبي، كانت هذه الضربة الرابعة في حياتي، واللحظة التي شعرت فيها أنني أعيش صدمة متواصلة".
"خطيبًا فذّا"..
وماذا عن علاقتك بوالدك؟، تُجيب: "كان الوالد دائمًا يقدم لنا دروسًا عظيمة في الحياة، وكان دائمًا ما يكتب خطبًا رائعة، كانت تلامس قلب كل من يسمعها، وحتى الآن، أسترجع تلك الذكريات وأستمد منها القوة في الأوقات الصعبة، أعلم أنني فقدت أشياء ثمينة، لكنني متأكدة أن الله سيعوضني في باقي حياتي، ونسأل الله أن يثبتنا، وأن يعوضنا خيرًا عن كل ما فقدناه".
وفي سؤالنا كيف كانت خُطب والدك تنعكس على حياتكم اليومية؟ وماذا بقي منها في ذاكرتك اليوم؟"، تُجيب: "كنت أتمنى أن أستمر في نشر خطب والدي، كان خطيبًا فذًا، خطبه كانت تحمل رسالة عميقة تتجاوز الحدود، وكانت تُنشر في كل مكان، في اليوتيوب وفي قلوب الناس، كانت خطبته في العيد مميزة جدًا، وكان يحضر لها طوال الأسبوع، لم يكن يرضى بأية خطبة أخرى، كنا نعد كتابًا يحتوي على كل خطبه لتكون مرجعًا للشباب والخطباء الجدد، كان يقول لي دائمًا: اكتبها بسرعة، اجعلها مرجعًا للآخرين".
وتضيف بحزن شديد: "لكن الحرب، منعتنا من إتمام هذا المشروع، لكنني لن أتوقف، سأستمر في نشر خطب والدي كما كنت أستمع إليها كل أسبوع، كان يصغي إليها طوال الأسبوع، حتى عندما يذهب للنوم، كان يضع الخطبة بجانبه ويستمع لها، تلك الخطب كانت بالنسبة لي مصدر قوة وراحة، رغم الحزن الذي يملأ قلبي."
وتستطرد: ""كان أبي يقضي شهرين كاملين في التحضير لخطبة عيد الفطر، وكانت دائمًا مميزة جدًا. وكان في بيت حنون، إذا اجتمعنا جميعًا، يلتف الناس حوله للاستماع إلى خطبته، بعد عيد الفطر، يبدأ مباشرة في التحضير لخطبة عيد الأضحى، كانت خطبه قمة في الجمال، وكنت دائمًا أشعر بالقداسة في كل كلمة ينطق بها."
وعن وداع أنيس قلبها "والدها"، تقول: "كان وجهه ناصع البياض، وكأن النور يحيط به، ابتسامته العريضة كانت تملأ المكان، ورائحته العطرة، وكأن المسك قد امتلأ الجو، كان الأمر لا يصدق، وكنت في دهشة، ثم جاء رجل غريب، لم أعرفه، وقال لي: 'لماذا تبكون؟ شهيدكم يبتسم، شهيدكم رافع السبابة، شهيدكم رائحته في المكان، وجهه ناصع البياض، الحمد لله، كانت تلك خاتمة طيبة."
وتُتابع "الكفارنة" بصوتٍ يملؤه الأسى: "اليوم ذاته كان وداع أخي، استشهد بعد ساعتين أو ثلاث من إصابته، دفناه في اليوم الثاني، لقد كنت أغرق في الصور والذكريات، أعود لتلك الرسائل التي كانت بيننا، قبل استشهاده وبعده، وكل كلمة كانت تمضي أمامي كأنها حياة جديدة."