الساعة 00:00 م
الأربعاء 16 ابريل 2025
22° القدس
21° رام الله
21° الخليل
25° غزة
4.86 جنيه إسترليني
5.19 دينار أردني
0.07 جنيه مصري
4.15 يورو
3.68 دولار أمريكي
4

الأكثر رواجا Trending

"نتنياهو" والمفاوضات بشأن حرب غزة.. "لعبة تضييع الوقت"

ضحكة في وجه الحرب.. صانعو المحتوى في غزة يروّضون أوجاعهم بالفكاهة

ستة نعوش.. وقلب أبٍ لا يتّسع للفقد.. رصد تفاعل مؤثر عبر مواقع التواصل الاجتماعي

الصحة لـ "سند": أي استهداف آخر للمنظومة الصحية بغزة يعني حكمًا بالإعدام على المصابين

أُصيب بشلل نصفي قبل أن تلتهمه النيران..

أحمد منصور الشاهد على الحقيقة أحرقه الاحتلال حياً وحرمه حضن عائلته

حجم الخط
الصحفي أحمد منصور
غزة - فاتن عياد الحميدي - وكالة سند للأنباء

" أتظن أنك عندما أحرقتني، ومحوت تاريخي ومعتقداتي، عبثاً تحاول، لا فناء لثائر، أنا كالقيامة ذات يوم آتِ"، في زماننا تعددت الأخاديد وتوهجت شقوق نيرانها، والتهمت أجساد الفلسطينيين أحياءً قبل أن تشُبَّ في ضمائر العالم المغيب.

ففي ظلمة الليل الحالك كان "أحمد" يجلس بثباتٍ على كرسيه المعتاد في خيمة للصحفيين، يقظاً مستيقظاً، يكتب الخبر وينقل الحقيقة، ويصف الصورة، قبل أن يدفع ثمن كلمة الحق بالحرق حياً، ويشاهد الخذلان للمرة الأخيرة.

وكان أحمد منصور (36 عاماً) يعمل مراسلاً لوكالة "فلسطين اليوم" المحلية، أبٌ لثلاثة أطفال، إنسان عُرف عنه فكاهته وحبه للحياة ما استطاع إليها سبيلاً.

استشهد "منصور" فجر الثلاثاء الثامن من إبريل/ نيسان الجاري، متأثراً بإصابته بعد قصف إسرائيلي استهدف خيمة للصحفيين في مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، قبل أن تُفجع عائلته ويضج العالم بمشهد حرقه حياً أمام مرأى الناس.

أحمد منصور.jpg


 

الصحفي الإنسان، الأخ السند والأب الحنون..

وفي حديث لـ"وكالة سند للأنباء"، يروي سامي منصور شقيق الصحفي "أحمد" بعضاً من حبٍ لحياة الصحفي الإنسان، قبل أن يحدثنا عن فاجعة الليلة الأخيرة.

ويبدأ "سامي" حديثه عن مزايا أخيه الشهيد الذي لم يكن في نظره أخاً فحسب "فقد كان الأم والأب والصديق الحاني"، حمل كل معاني الإنسانية البحتة، فقد كان طيب القلب حنوناً مهذباً حلو الكلام".

ويُسهب في مدح أخيه الشهيد قائلاً" لقد كان متفائلاً باعثاً للأمل حتى في أحلك الظروف وأشدها قسوة، حتى باشتداد الحصار ونفاد مخزون الغذاء، كان يقول: "إن شاء الله ما يصير إلا كل خير" ويرددها دائماً.

أمَّا عن أسرته فلم يدَّخر "أحمد" جهداً قط في سبيل خدمة أبنائه كان أباً حانياً يُحب أطفاله وأسرته كثيراً، ويخاف عليهم من "نسمة الهواء"، أمضى جُل وقته في مداعبة أطفاله "كيف لا وهو عاشق للأطفال، يكرمهم ويداعبهم من حين لآخر"، سواء أكانوا أبناءه أو أبناء إخوته وأخواته.

وما أن ينتهي "سامي" من وصف أخلاق أخيه حتى ينتقل إلى ميزة أخرى، مبيناً "كان سنداً لأسرته وأصدقائه بما تحمله الكلمة من معنى، أينما تطلب المساعدة تجده بسعة رحب أمامك ينتظر إشارتك ليساعدك" أما عن كرمه:" فقد كان يُخرج ما في جيبه ويُعطي الغير ولو كان على حساب قليل ما يملك".

وبالعودة إلى مقاعد الدراسة، يقول "سامي"، إن "أحمد" أنهى مراحل دراسته الأساسية في مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" في مدينة خانيونس، ثم التحق بدراسة اختصاص اللغة الإنجليزية التي قضى فيها عاماً دراسياً قبل أن ينتقل إلى اختصاص التعليم الأساسي- لفترة قصيرة-، إلى أن استقر في دراسة دبلوم الصحافة الإلكترونية في جامعة الأقصى.

وبدأ "منصور" عمله كصحفي فلسطين غيور على وطنه، طامح في إرسال الحقيقة الكاملة عن قضيته العادلة فلسطين للعالم الظالم في بداية عام 2012؛ ماضياً في تغطية الحروب المتكررة على القطاع.

تغطية الحرب..

أما حرب الإبادة الجماعية فقد كانت مختلفة، مختلفة جداً، ويردف أخيه "فمنذ اليوم الأول شرع أحمد بالتغطية الصحفية، ولم يتوانى دقائق عن نقل الحقيقة فيها حتى باشتداد قصفها واستهداف الصحفيين، وتواصل أزمة انقطاع الكهرباء والإنترنت.

بدأ "أحمد" بارتياد خيمة الصحفيين التي كانت خلف مستشفى ناصر آنذاك، وكان هو الوحيد الذي يغطي الأحداث المتسارعة على موقع "وكالة فلسطين اليوم"؛ لتمكنه من الحصول على مصدر الطاقة وخدمة الإنترنت اللازمة لهذا العمل.

اعتاد الصحفي أحمد أن ينهي عمله بعد العشاء، في وقت كانت فيه الشوارع ظلاماً دامساً، خاليةً تمامًا من البشر، لا تسمع إلا أصوات الطائرات التي كانت تَغيْرُ بصواريخها على الآمنين في بيوتهم.

كان إيمانه بالله قوي، وسعى لفضح جرائم الاحتلال مهما كلفه الأمر من ثمن ولو على حساب حياته، فلم يتكاسل يوماً عن إيصال الصورة الحقيقية عن معاناة شعبه في قطاع غزة، وتزويد الموقع الإخباري الذي يعمل فيه بكل تفاصيل حرب الإبادة الجماعية.

العمل الصحفي كان شغفاً لـ"أحمد" وحباً لممارسة هذا العمل رغم ما يحمله من خطورة في هذا الوقت العصيب، وما يترتب عليه من عملٍ تحت الضغط والطوارئ والخوف الشديد.

ومع ذلك فقد كان لعمله الصحفي أثراً كبيراً عليه وعلى أسرته، لما يترتب عليه من مخاطر متزايدةً في ظل الاستهداف المتعمد للصحفيين، وهو ما تعرض له "أحمد" في نهاية الأمر.

فإذا تأخر قليلاً تبدأ الاتصالات تتوارد عليه للاطمئنان، وما أن يرجع لأحضان عائلته، يبدأ بمشاطرتهم الحديث حول ما جرى معه في تفاصيل يومه.

لم يكترث "أحمد" لضغط العمل الصحفي وخطة الطوارئ للعمل أثناء الحرب، ويستدرك أخيه بالقول:" لكن أكثر المشاهد التي كان يتأثر بها، أبناء الشهداء والأُسَر المكلومة".

أما مخاوف الشهيد "أحمد: فقد كان أبرزها الفقد، خوفه من فقد أبنائه وعائلته وأحبته كان يتوارد إلى ذهنه دائماً، وبحسب "سامي"، " كان أحمد دائم التواصل مع عائلته للاطمئنان على سلامتهم رغم ما به من تعب وإرهاق من العمل المتواصل".

ويتساءل ضيفنا: "هل يشعر الشهداء بدنو آجالهم"؟، معللاً ذلك بحال أخيه الشهيد وآخر أيامه معهم، والتي كان فيها "شديد الفكاهة، وكأنه يزرع بسمته في قلوبنا أكثر قبل رحيله، وقبل أن تتحول إلى غصة لن تزول".

"الليلة الأخيرة"..

أما تلك الليلة الأشد قسوة، ليلة الاستهداف التي لم تكن تتوقع عائلة "منصور" أن يكون نجلهم الشهيد يتواجد في خيمة الصحفيين حتى ذلك الوقت.

وفي تفاصيل ما جرى، يسرد ضيفنا "سامي" أنه عند الساعة الواحدة و20 دقيقة من فجر يوم الإثنين، تلقت العائلة خبراً أيقظها من النوم، باستهداف طيران الاحتلال الإسرائيلي خيمة للصحفيين على مدخل مستشفى ناصر في خانيونس.

وللوهلة الأولى بدى الخوف والقلق سيدا الموقف؛ لأن الاستهداف كان في الخيمة التي يقضي فيها "أحمد" عمله، ويردف "سامي":"لكننا لم نتوقع أن يكون أخي متواجداً حتى هذه الساعة المتأخرة من الليل في العمل، كونه ينتهي قبل منتصف الليل بساعة".

حاول ضيفنا وعائلته التواصل مع أخيه "أحمد" لكن دون جدوى، "لا إرسال، "لا يمكن الوصول، وأخيراً الرقم مشغول أي أنه تم إنهاء الاتصال الوارد إلى هاتفه"، وفي هذه اللحظات بدأ الخوف يسيطر بشكل أكبر على قلوب العائلة الفَزِعة.

ورويدا رويداً، بدأت منصات التواصل الاجتماعي تضج بصور شاب تشتعل فيه النيران وتبدوا عليه ملامح "أحمد" خاصة أنه طويل القامة، وسرعان ما ذهب ضيفنا مهرولاً تحت ظلمات ثلاث "ظلمة الليل، ظلمة الحرب، وظلمة الفقد"، للمكان المستهدف بحثاً عن شقيقه.

ويصف لنا تلك اللحظة: "الخروج في مثل ذلك الوقت مرعب، ظلام دامس، أصوات طائرات الاستطلاع مخيفة جداً، وأنت تمشي بمفردك في الشارع حتى وصلنا إلى المستشفى، وحينها كانت الصدمة"!

"أحمد مُصاب ويتواجد في غرفة العناية المكثفة في قسم الطوارئ"، كانت هذه الإجابة الأولى عند السؤال عن الصحفي أحمد"، ويزيد ضيفنا: "في بادئ الأمر منعني الأطباء من الدخول إليه لخطورة حالته"، وبعد محاولات عدة تمكن "سامي" من الدخول إلى الغرفة والنظر إلى أخيه، حيث الصدمة الثانية.

"مشهد لم أتخيل أن أشاهده في حياتي"، بهذه العبارات يستذكر "سامي" تلك الفاجعة، بعد أن رأى أخيه مُسجىً مُحترقا بشكل كبير في الجهة اليمنى من جسمه، من رأسه حتى أخمص قدميه".

لماذا بقي بهذا الثبات ولم ينقذ نفسه؟

وأخبر الأطباء عائلة الصحفي "منصور" أن حالته حرجة جداً؛ نظراً لتعرضه لحروق شديدة في الوجه والرقبة واحتراق رئة واحدة، واستمرت حالته هكذا حتى إعلان استشهاده منتصف ليلة الثلاثاء.

وأفصح الأطباء بعد استشهاد "أحمد" عن إصابته إصابة "قاتلة" في المخ، حيث تعرض لشظية وصلت إلى عصب المخ تسببت له بشللٍ نصفي في الجهة اليمنى من الجسم، -وفقاً لأخيه-.

وأرجع ضيفنا عدم مقدرة شقيقه "أحمد" على إسعاف نفسه بالركض خارجاً قبل أن يتعرض للاحتراق إلى تلك الإصابة، حيث منعه الشلل من الحركة إلى أن شبَّت بجسده النيران وأحرقته!

ويُعقِّب ضيفنا على مشهد احتراق أخيه:" كانت الصدمة كبيرة جدًا تفوق تصور العقل مع انتشار مقطع فيديو يظهر النيران وهي تشتعل في جسده الضعيف، حيث أظهرت حركات بسيطة من جسده توحي أنه كان يتألم بشدة".

"هذه الصورة هزت مشاعرنا ومشاعر العالم كله معبرين عن صدمتهم من ذلك المشهد الفظيع الذي لا يتحمله أي شخص يحمل أقل مستوى من الإنسانية"، ولكن "هل سيتوقف الاحتلال من الاستهداف المتعمد للصحفيين؟ أم سيُنسى حرقُ أحمد كما قَتل الاحتلال زملاءه من قبله؟