قالت صحيفة فايننشال تايمز الأمريكية إنه حتى بمعايير السياسة الإسرائيلية المضطربة، كانت الليلة التي قرر فيها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إقالة رئيس جهاز الأمن العام "الشاباك" استثنائية بكل المقاييس.
فقد سدّ المحتجون، الغاضبون من القرار، الطرقات القريبة من مكتب رئيس الوزراء في القدس المحتلة باستخدام السيارات، وردّت الشرطة باستخدام مطرقة وحجر لتحطيم نوافذ تلك السيارات.
وفي الداخل، انشغل نتنياهو وحلفاؤه في اليمين المتطرف بتشويه سمعة رئيس الشاباك رونين بار — وتسربت الاتهامات للصحافة الإسرائيلية شبه لحظيًا — قبل أن يصوّت الوزراء على إقالته فجرًا.
وبحسب الصحيفة فإن ما جعل القرار لافتًا ليس فقط كونه المرة الأولى التي تصوّت فيها حكومة إسرائيلية لإقالة رئيس جهاز الشاباك، بل توقيته أيضًا: لم يكن الجهاز يحقق فقط في شبهات حول علاقات مالية غير لائقة لمكتب نتنياهو، بل إن "إسرائيل" كانت قبل ثلاثة أيام فقط — في 18 مارس — انقلبت على اتفاق وقف إطلاق النار في غزة.
ومع استئناف الهجمات العسكرية الإسرائيلية على غزة، وجّه مجلس الوزراء الإسرائيلي أنظاره إلى أحد أهم أعمدة المؤسسة الأمنية في البلاد، ما زاد من حدة الانقسامات الداخلية التي كانت قد عصفت بالمجتمع الإسرائيلي قبل اندلاع الحرب.
وقد ظهر الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ قلقًا إلى درجة أنه أصدر فيديو يندد فيه بالحكومة واصفًا ما يحدث بأنه “لا يُعقل”، متسائلًا: “كيف نرسل أبناءنا إلى الجبهة، بينما نمضي في قرارات مثيرة للجدل تعمّق الانقسام داخل الشعب؟”.
لكن، وفي نظرة أوسع، يعكس هذا التزامن بين التحركات العسكرية والسياسية تحولًا جوهريًا في نهج نتنياهو، بحسب فايننشال تايمز.
إذ بعد عام من الدفاع إثر الفشل الذريع المتمثل في هجوم طوفان الأقصى للمقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر 2023، بات نتنياهو يتبع نهجًا هجوميًا في الداخل والخارج، في تحوّل يقول دبلوماسيون ومحللون إنه سيكون له أثر عميق على "إسرائيل" والمنطقة.
مدفوعًا بعودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ومتأثرًا بإخفاق 7 أكتوبر، تبنّت حكومة نتنياهو عقيدة عسكرية أكثر عدوانية، تفاخر بها مؤخرًا قائلًا إنها “تغيّر وجه الشرق الأوسط”.
فمنذ مطلع العام، استولت القوات الإسرائيلية على أراضٍ من جيرانها، ونفذت ضربات عسكرية خارج الحدود، والأخطر من ذلك، أن نتنياهو يضغط على ترامب لدعم ضربة عسكرية ضد إيران.
في الداخل: صدام مع الدولة العميقة
في الداخل، أعادت حكومة نتنياهو — التي تُعد الأشد يمينية في تاريخ "إسرائيل" — الصراع مع القضاء وأركان الدولة، وهو صراع أشعل احتجاجات استمرت أشهرًا قبل الحرب، وأدخلت البلاد في أكبر أزمة داخلية بتاريخها.
وقد استؤنفت هذه المواجهة مؤخرًا وسط مخاوف من اندلاع أزمة دستورية على خلفية إقالة رئيس جهاز الشاباك.
يقول عامي أيالون، الرئيس الأسبق للشاباك في فترة ولاية نتنياهو الأولى: “ما نعيشه اليوم هو أزمة وجودية. إنها أزمة هوية لكل المجتمع الإسرائيلي… لا أستطيع أن أصف ما ستكون عليه إسرائيل بعد أربع سنوات.”
في الخارج: تمدد إقليمي وعمليات عسكرية مكثفة
خارج الحدود، كانت آثار العقيدة الجديدة أكثر وضوحًا. فقد كثّفت القوات الإسرائيلية عملياتها في الضفة الغربية، واستأنفت حربها في غزة، مما تسبب في نزوح مئات الآلاف، وسعت للسيطرة على مساحات أوسع.
كما استولت دولة الاحتلال على أراضٍ من سوريا ولبنان ما أثار انتقادات دولية.
ففي لبنان، أقامت سلطات الاحتلال مواقع عسكرية في خمس نقاط قرب الحدود، وتعهدت بالبقاء فيها لأجل غير مسمى.
وفي سوريا، نفذت غارات جوية لتدمير القدرات العسكرية هناك، ودخلت منطقة منزوعة السلاح تخضع لمراقبة الأمم المتحدة بمساحة 235 كم². بل وصرّح نتنياهو بأن شريطًا من الأراضي السورية يمتد 50 كم إضافية يجب أن يصبح منطقة “نفوذ منزوعة السلاح”.
عودة الانقسام الداخلي
استؤنف الصراع الداخلي عندما دفعت الحكومة بسلسلة خطوات أثارت غضب قطاعات واسعة: من إقالة رئيس الشاباك، وبدء إجراءات لإقالة المستشارة القضائية للحكومة غالي بهاراف-ميارا، إلى تمرير تعديل يسمح للسياسيين وحدهم بتعيين قضاة المحكمة العليا.
وبرر نتنياهو وحلفاؤه هذه الخطوات بأنها جزء من مساعٍ لكبح جماح “الدولة العميقة” التي يرونها عقبة أمام أجندتهم. وقالوا إن نتنياهو فقد الثقة في بار بعد إخفاقات 7 أكتوبر، وأن المستشارة القضائية تعرقل عمل الحكومة.
لكن معارضيه وصفوا هذه الخطوات بأنها هجوم مباشر على توازن السلطات، واعتبروا أنها تعكس تضارب مصالح واضح، خاصة أن بهاراف-ميارا تشرف على محاكمة فساد مستمرة بحق نتنياهو.
وقد جمّد القضاء الإسرائيلي قرار إقالة بار مؤقتًا، رغم أن الوزراء هاجموا هذا القرار، إلا أنهم لم يتحدوه حتى الآن.
يقول أيالون: “إنها ليست مسألة يمين ويسار. إنها مسألة تعريف اليهودية والديمقراطية. هناك من يرون أن الديمقراطية تعني حكم الأغلبية فقط، ولا يهتمون بحقوق الإنسان أو الأقليات… هذه هي الأزمة الكبرى.”
فيما يقول دبلوماسيون إن عودة ترامب للرئاسة كانت الدافع الأكبر لتغير نهج نتنياهو. فقد قام ترامب، في ولايته الأولى، بنقل السفارة إلى القدس المحتلة، وأقر بشرعية المستوطنات في الضفة الغربية.
ومنذ عودته إلى البيت الأبيض، عيّن ترامب شخصيات داعمة لإسرائيل في مواقع حساسة، ووافق على شحنات أسلحة كانت مجمّدة في عهد بايدن، وقدّم غطاءً سياسيًا للحرب في غزة وللوجود الإسرائيلي في لبنان.
والأخطر، أنه طرح فكرة ترحيل سكان غزة البالغ عددهم 2.2 مليون — وهي فكرة كانت حكرًا على اليمين المتطرف — وجعلها جزءًا من النقاش العام.
يقول دبلوماسي عربي: “أخطر ما فعله ترامب هو إدخال هذا الطرح إلى الأجندة الرسمية. بايدن كان صهيونيًا، لكنه مارس ضغطًا على إسرائيل. أما ترامب، فليس أيديولوجيًا، لكنه يمنح نتنياهو الضوء الأخضر الكامل.”
حتى في الداخل، ساهم ترامب في تعزيز موقف نتنياهو. قبل يومين من التصويت على إقالة بار، نشر نتنياهو على منصة X (تويتر سابقًا) مقارنة بين صراعه مع القضاء وصراع ترامب مع مؤسسات الحكم الأميركية.
كتب: “في أميركا وإسرائيل، عندما يفوز زعيم يميني قوي، تستخدم الدولة العميقة القضاء لإفشال إرادة الشعب. لكنهم لن ينجحوا هنا أو هناك. نحن صامدون معًا.”