الساعة 00:00 م
الخميس 24 ابريل 2025
22° القدس
21° رام الله
21° الخليل
25° غزة
4.84 جنيه إسترليني
5.14 دينار أردني
0.07 جنيه مصري
4.13 يورو
3.65 دولار أمريكي
4

الأكثر رواجا Trending

بترت صواريخ الاحتلال ساقها.. صابرين وتامر ينتصران لحبهما رغم جراح الحرب

وسط الرماد.. مبادرات التفريغ النفسي تحيي أرواحًا أنهكها الرعب في غزة

غزة.. هدنة يسبقها تصعيد عسكري وهذه سيناريوهات الحرب العدوانية

وسط الرماد.. مبادرات التفريغ النفسي تحيي أرواحًا أنهكها الرعب في غزة

حجم الخط
مبادرات التفريغ النفسي.jpg
غزة- وكالة سند للأنباء

في مراكز الإيواء المكتظة، حيث الضجيج لا يشبه شيئًا سوى صوت الذاكرة وهي تحاول أن تنسى، وبين خيام لا تقي بردًا ولا حزنًا، يولد بصيص من الأمل على هيئة مبادرات للتفريغ النفسي، تُداوي ما لا تداويه المسكنات، وتضمد جراحًا لا تراها الكاميرات.

"كنت أظن أنني فقدت ابني مرتين، مرة حين قُصف البيت، ومرة حين توقف عن الكلام"، هكذا بدأت أم محمد قصتها، وهي تحتضن طفلها في أحد مراكز الإيواء.

عيونها، التي تخفي وراءها تعبًا عميقًا، تجسد معاناة لم تُحكِها كاميرات الحرب، لكن هناك، في الزوايا المظلمة للمخيمات، ظهر بصيص الأمل حين بدأت ابنتها تُشارك في رسم ملون بعد أيام طويلة من الصمت.

حكايات من الألم الصامت..

قصص الأطفال والنساء الذين يواجهون تحديات نفسية رهيبة بعد موجات القصف العنيف، ليست مجرد أرقام في تقارير الأمم المتحدة، بل هي حكايات حيّة من قلب الواقع المعاش.

"أم إبراهيم" واحدة من هؤلاء، التي تشاركنا تجربتها قائلة: "قبل الجلسات النفسية، كنت أعيش في حالة من الصمت والحزن العميق بعد فقدان زوجي وبيتي، كان الألم ثقيلًا على قلبي، خاصةً على أطفالي".

" لكن منذ أن بدأنا المشاركة في الأنشطة، شعرت بشيء من الراحة، أصبح لدينا مساحة للتعبير عن مشاعرنا، وأدركنا أننا لسنا وحدنا في هذه المعاناة، ابنتي بدأت تعود للحياة، وتعبّر عن نفسها بالرسم بعد فترة طويلة من الصمت".

تروي أم إبراهيم كيف كانت الجلسات الجماعية أحد أهم الوسائل التي ساعدتها على التكيف، موضحة: "في هذه الجلسات، كنا نتبادل القصص والمشاعر، وهو ما منحني شعورًا بالطمأنينة أن هناك من يفهمنا، أما الأنشطة مع الأطفال فكانت لحظات من الفرح والراحة التي افتقدناها، وساهمت بشكل كبير في استعادة توازني النفسي".

شريان للحياة..

وعلى الرغم من الظروف الصعبة والموارد الشحيحة، تبقى هذه المبادرات النفسية شريان حياة لا يُقدّر بثمن وسط الدمار في غزة، فليست المساعدات الغذائية التي توزّع فقط، بل تُوزع الحياة، عبر جلسات جماعية، أنشطة فنية، وألعاب موجهة تحاول أن تُحيي الأرواح التي مزقتها أصوات الصواريخ.

كما توضح الأخصائية النفسية سمر خليل: "هذه ليست رسمة، هذا رجاء طفلة بأن يعود لها سقف وأمان. الرسم صار وسيلتها لتقول ما لا تستطيع ترجمته بالكلمات".

وتضيف في حديثها لـ "وكالة سند للأنباء": "تأثير هذه الأنشطة على الأطفال واضح، حيث يعانون من حالات قلق مزمن نتيجة القصف العنيف، مشاهد الدمار، وفقدان الأحبة، ومن خلال الرسم والتعبير الفني، يجد هؤلاء الأطفال وسيلة للتواصل مع العالم بعد أن اختفت الكلمات من أفواههم".

إعادة بناء للروح..

وتذهب المبادرات النفسية لأبعد من مجرد تفريغ عاطفي مؤقت؛ فهي بمثابة عملية إعادة بناء للإنسان نفسه، وعن ذلك تحدثنا الأخصائية النفسية أسماء الشامي: "هذه الأنشطة تسهم في إعادة الإحساس بالاستقرار وسط الفوضى، وهي ضرورية في التعامل مع صدمات الحرب".

وتشرح الأخصائية خلال حديثها لـ "وكالة سند للأنباء": "مع كل ابتسامة أو كلمة ينطق بها أحدهم بعد صمت طويل، يُعاد لهم جزء من الأمل ويبدأون في الشفاء النفسي، ولكن هذا الطريق ليس سهلًا، فالأطفال توقفوا عن الكلام، والأمهات يعانين من اكتئاب حاد".

وبينما يُشدد على أهمية دعم الأطفال، لا يغفل الكثيرون أيضًا الحاجة الماسة لجلسات دعم نفسي للكبار، إذ أن آلاف الأمهات يعانين من اضطرابات النوم والإرهاق النفسي الشديد.

واحدة من الأمهات تقول لنا: "نحن لا نحتاج فقط خبزًا وماءً، نحتاج أن نتنفس، أن نحكي، أن يسمعنا أحد".

وتشير تقارير أممية إلى تفاقم الأزمة النفسية في قطاع غزة نتيجة للحرب المستمرة والدمار الواسع الذي خلفه العدوان.

أرقام صادمة..

ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية، يعاني نحو 20% من سكان القطاع من اضطرابات نفسية تتطلب تدخلًا متخصصًا، وهي نسبة تعادل ضعف المعدل العالمي، ما يبرز الحاجة الماسة إلى تعزيز المبادرات النفسية في المنطقة.

كما تُقدّر أعداد المصابين بأمراض نفسية بنحو 120 ألف شخص، بالإضافة إلى 85 ألفًا يعانون من إعاقات مختلفة، مما يفرض ضغوطًا كبيرة على النظام الصحي المُنهك أصلًا.

وفيما يتعلق بالأطفال، وهم من الفئات الأكثر تضررًا نفسيًا، أفادت منظمة اليونيسف بأن واحدًا من كل ثلاثة أطفال في غزة يحتاج إلى دعم نفسي عاجل لمواجهة آثار العنف والخوف والصدمات المتكررة.

أما على صعيد البنية التحتية، فتواجه المبادرات النفسية تحديات جسيمة، إذ لا يوجد سوى مستشفى حكومي واحد مخصص للصحة النفسية، إلى جانب عدد محدود من العيادات التي تفتقر للإمكانات وتكتفي غالبًا بالعلاج الدوائي.

وحذرت المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالحق في الصحة من أن ما يجري في غزة يشكل "إرهابًا نفسيًا" وجزءًا من مسار إبادة جماعية، مؤكدة أن الأثر النفسي على السكان بات كارثيًا.

وزاد من حدة الوضع استهداف المرافق الصحية بالقصف، مما عرقل تقديم خدمات الدعم النفسي، وأدى إلى تعميق معاناة المدنيين، في ظل حاجة ماسة إلى دعم دولي عاجل لتعزيز المبادرات النفسية وتنمية برامج الرعاية المتخصصة.

وفي عالم تقوده آلة الإبادة، تصبح الابتسامة عملاً بطوليًا، والرسم فعل مقاومة، واللعب صرخة حياة، هذه المبادرات، التي تأتي في ظروف صعبة ومع غياب دعم مستمر، تمثل بذور نجاة من الواقع المعاش بغزة.

وقد لا تُنهي هذه المبادرات الحرب، لكنها بالتأكيد تمنح الناجين قدرة على الاستمرار، وتُعيد لهم القدرة على الحلم مجددًا، في وقت يظن فيه البعض أن الأحلام قد أُطفئت إلى الأبد.