أبرزت مجلة Foreign Affairs الأمريكية الإدانة الدولية الحاصلة لدولة الاحتلال الإسرائيلي بتنظيم سياسة تجويع إجرامية ضد السكان المدنيين في غزة وذلك في خضم حرب الإبادة الجماعية المستمرة على القطاع منذ أكثر من 19 شهرا.
وأشارت المجلة إلى أنه في أوائل آذار/مارس الماضي، ومع انقلابها على اتفاق وقف إطلاق النار، لجأت دولة الاحتلال مرة أخرى إلى تكتيك استخدمته سابقًا في حرب غزة: فرض حصار كامل على القطاع، بما في ذلك قطع جميع إمدادات الغذاء والدواء والوقود والكهرباء.
وكان الهدف، وفقًا لمسؤولي مجلس الوزراء الإسرائيلي، هو جعل الحياة لا تُطاق لسكان غزة البالغ عددهم مليوني نسمة لإجبار فصائل المقاومة على قبول المطالب الإسرائيلية في محادثات تمديد وقف إطلاق النار.
وفي خضم حرب قُتل فيها عشرات الآلاف من المدنيين بوسائل أكثر مباشرة، قد يبدو الحصار الإسرائيلي المتسلسل لغزة للوهلة الأولى قضية ثانوية. لكن هذا التكتيك - والمبررات التي قدمها المسؤولون الإسرائيليون لاستخدامه - أصبح اختبارًا رئيسيًا للقانون الدولي.
إذ تعقد محكمة العدل الدولية هذا الأسبوع جلسات استماع بشأن هذه القضية، عقب طلب من الجمعية العامة للأمم المتحدة للتحقيق فيما إذا كانت "إسرائيل" قد انتهكت ميثاق الأمم المتحدة بعرقلة الأونروا، وكالة الإغاثة الرئيسية للأمم المتحدة في غزة.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية بالفعل أوامر اعتقال دولية ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الجيش الإسرائيلي السابق يوآف غالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وجوهر الاتهامات الموجهة إلى نتنياهو وغالانت يكمن في جريمة مختلفة ونادراً ما يتم الاستناد إليها: إذ يتهمهما المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، بتنظيم سياسة تجويع إجرامية ضد السكان المدنيين في غزة.
وفي تصنيفه لجرائم الحرب، يتضمن نظام روما الأساسي، المعاهدة المبرمة عام ١٩٩٨ والتي أسست المحكمة الجنائية الدولية، "الاستخدام المتعمد لتجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب"، وهو تكتيك قد يتضمن "عرقلة متعمدة لإمدادات الإغاثة".
ويعتبر المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أن نتنياهو وغالانت، بإعلانهما علنًا نية "إسرائيل" فرض حصار شامل على غزة، ثم تطبيق تدابير تحرم سكان غزة من الغذاء وغيره من السلع الضرورية لبقاء المدنيين، قد ارتكبا جريمة حرب هي التجويع.
وهذه هي المرة الأولى في التاريخ التي تُركّز فيها محكمة كبرى محاكمة جرائم حرب على هذه التهمة تحديدًا.
عواقب الحصار واسعة النطاق
مع تفاقم الحرب في غزة، كانت عواقب الحصار واسعة النطاق. في أكتوبر/تشرين الأول 2024، وبعد عام من الحرب التي غالبًا ما تباطأت خلالها شحنات المساعدات إلى حد كبير، خلص تقييم غذائي مدعوم من الأمم المتحدة إلى أن حوالي أربعة أخماس سكان غزة البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة يواجهون "جوعًا شديدًا".
والآن، مع تصعيد الجيش الإسرائيلي بشكل كبير لهجومه البري الجديد، تتزايد المخاوف من أن الأزمة الإنسانية قد تصل مجددًا إلى تلك المستويات الكارثية، أو حتى تتجاوزها.
في أوائل أبريل/نيسان، أعلن برنامج الغذاء العالمي أن جميع المخابز الـ 25 التي يدعمها في غزة، والتي كان العديد منها ضروريًا لبقاء المدنيين خلال المراحل الأولى من الحرب، قد أُجبرت على الإغلاق بسبب نقص الدقيق والوقود.
وبما أن الوقود والكهرباء ضروريان لتشغيل محطات تحلية المياه التي توفر معظم مياه الشرب في غزة، فإن ما يُقدر بنحو 91% من السكان يواجهون أيضًا انعدام الأمن المائي، مما يُفاقم نقص الغذاء ويُعيد شبح الأمراض إلى الواجهة.
وبحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، فإن سكان غزة يدخلون الآن أطول فترة بدون مساعدات إغاثية منذ بدء الحرب في أكتوبر/تشرين الأول 2023. وقال متحدث باسم مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية الأسبوع الماضي: "في الوقت الحالي، ربما يكون هذا هو أسوأ وضع إنساني شهدناه على الإطلاق طوال الحرب".
معركة شاقة للقضاء الدولي
رغم هذه الآثار الجلية للسياسات الإسرائيلية، تواجه المحكمة الجنائية الدولية معركةً شاقةً. فمن جهة، لم تُحاول قطّ محاكمة زعيم دولة غربية. وقد وضعت مذكرات التوقيف الدول الأعضاء في المحكمة، وخاصةً حلفاء "إسرائيل" الأوروبيين وكندا، في موقفٍ حرج.
فإذا دخل نتنياهو - أو غالانت - إحدى هذه الدول، فإن سلطاتها مُلزمة قانونًا باحتجازه. ومن جانبها، عارضت الولايات المتحدة بشدة القضية المرفوعة ضد الإسرائيليين منذ البداية، وشرع الرئيس دونالد ترامب في تدمير المحكمة نفسها وأذن بفرض عقوبات على مسؤولي المحكمة في فبراير، تهدف إلى تصعيب عمل المحكمة بشكل كبير.
وخوفًا من تعريض مستقبلها للخطر، سارعت المحكمة إلى دفع رواتب موظفيها مُسبقًا، وناشدت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تقديم مساعدات طارئة. ومن المفارقات أن السلاح الذي تحاول المحكمة الجنائية الدولية ملاحقته، وهو الإكراه الاقتصادي، يُستخدم الآن ضدها.
ومع ذلك، فإن جوهر قضية المحكمة الجنائية الدولية يمثل تحديًا مماثلًا. فعلى الرغم من تاريخها الطويل والمدمر، فإن التجويع المتعمد للسكان المدنيين أمر يصعب إثباته بشكل ملحوظ، ونادرًا ما تمت محاسبة الأطراف المتحاربة التي استخدمت هذا التكتيك.
وبالتالي، فإن إجراءات المحكمة الجنائية الدولية تسلط الضوء على كل من الإلحاح الشديد لأزمة الجوع الجماعي في غزة والتحديات المستمرة في مقاضاة التجويع كجريمة.
وعلى الرغم من هذه العقبات القانونية الهائلة، فقد لفتت خطوة المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية الانتباه الدولي إلى شكل خطير للغاية من أشكال الحرب ضد المدنيين، وهو شكل غالبًا ما كان يمر دون أن يُلاحظ حتى الآن.
وسواء نجحت قضية المحكمة الجنائية الدولية أم لا، فإن السابقة التي ترسيها يمكن أن تعيد رسم الحدود القانونية للحرب وتجبر الدول على مراعاة قواعد كانت تعتقد في السابق أنها لن تنطبق عليها أبدًا.
وبجعل الحرب في غزة أول محاكمة للمحكمة الجنائية الدولية لجرائم التجويع، يبدو أن المدعي العام للمحكمة قد قرر أن التصريحات العلنية الصريحة للقادة الإسرائيليين تقدم دليلاً ملموسًا بشكل غير عادي على النية، بغض النظر عن العقبات القضائية المختلفة.
وقد حوّلت التصريحات العلنية الصادرة عن القيادة السياسية الإسرائيلية التجويع من جريمة حرب لم تُلاحق قضائيًا قط إلى ما وصفه بعض خبراء القانون الدولي بـ"الأمر السهل المنال"، مما ساهم في جعل تهمة التجويع محور مذكرات التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية.