في مشهد يذكّر بمناطق الحروب المفتوحة، تحولت أحياء كاملة في الضفة الغربية إلى أنقاض، وخلت الشوارع من ساكنيها، وسط حملة عسكرية إسرائيلية غير مسبوقة منذ احتلال الضفة عام 1967.
ووفقًا لتحقيق نشرته صحيفة نيويورك تايمز، فإن ما تشهده الضفة الغربية حالياً، لا سيما مدينتا جنين وطولكرم، يمثل أكبر عملية تهجير ونزوح تشهدها المنطقة منذ عقود.
وبحسب الصحيفة تغطي الأنقاض ما كان في السابق منازل لعشرات الآلاف من الفلسطينيين، وأغلقت الطرق بأكوام التراب والركام، في مشهد يعكس تدميرًا واسع النطاق وتغييرًا ديموغرافيًا قسريًا.
ففي أحد أحياء جنين، الذي كان يضم أكثر من عشرة آلاف شخص، لم يعد اليوم يسكنه أحد، وتحولت المساكن إلى أطلال، بعد أن عزز الجيش الإسرائيلي وجوده العسكري في المنطقة منذ يناير الماضي.
وأعلنت السلطات الإسرائيلية هذا الأسبوع نيتها هدم منازل إضافية في طولكرم لتسهيل حركة قواتها ومنع من تصفهم بالمسلحين من العودة إلى الأحياء المكتظة.
التهجير القسري
وهذا التوجه العسكري، حسب مراقبين، يعمق الأزمة الإنسانية في الضفة الغربية ويعيد إلى الأذهان ذكريات التهجير القسري خلال نكبة عام 1948.
تقول سليمة السعدي، 83 عاماً، وهي من سكان مخيم جنين: "أخشى ألا أستطيع العودة إلى بيتي كما حدث قبل ثمانية عقود". سليمة، مثل آلاف غيرها، وجدت نفسها مجددًا في دائرة النزوح بعد أن كانت تأمل أن تكون تلك المعاناة من الماضي.
وبحسب تقارير الأمم المتحدة، فقد نزح نحو 40 ألف فلسطيني من الضفة الغربية منذ بداية العام 2025، وهو رقم غير مسبوق منذ احتلال إسرائيل للمنطقة.
وتقول نيويورك تايمز إن هذا النزوح لا يحدث نتيجة المعارك المباشرة فحسب، بل بفعل سياسة ممنهجة تقوم على الحصار والهدم والترويع، دفعت العائلات إلى الفرار من منازلها.
قائد عسكري إسرائيلي رافق مراسلي الصحيفة في جولة داخل جنين، وادعى أن العمليات تستهدف فقط "بنية تحتية للمسلحين"، بما في ذلك أنفاق ومصانع أسلحة، لكن الفلسطينيين يقولون إن هذه التبريرات تُستخدم لتبرير تدمير أحياء بأكملها وإجبار سكانها على الرحيل.
وفي إحدى القصص التي نقلتها الصحيفة، تحدثت كفاح سهيل، 52 عامًا، عن اللحظات التي سبقت مغادرتها القسرية لمخيم جنين: "حلقت طائرة مسيرة فوق منزلنا وأمرتني عبر مكبر الصوت برفع يديّ والمغادرة فوراً. شعرت أنهم سيقتلوننا إن لم نمتثل". تروي كيف اصطحبت ابنها وغادرت وفق تعليمات الطائرة، دون أن تعرف ما إذا كانت سترى منزلها مجددًا.
على الصعيد الإداري، يتزامن هذا التوسع العسكري الإسرائيلي مع خطوات تُضعف من حضور السلطة الفلسطينية في هذه المدن.
فقد أمر وزير الجيش الإسرائيلي، في فبراير الماضي، قواته بالاستعداد للبقاء في جنين وطولكرم حتى عام 2026، وهو ما يشكل تحولًا كبيرًا عن النموذج القائم منذ اتفاقيات أوسلو والذي كانت السلطة الفلسطينية تدير فيه شؤون المدن الفلسطينية.
محمد جرار، رئيس بلدية جنين، اعتبر أن ما يجري هو نقطة تحول خطيرة. "إسرائيل تتصرف كما لو أن السلطة الفلسطينية غير موجودة"، يقول في تصريحات للصحيفة، مشيرًا إلى أن الأوضاع الميدانية تتجه نحو تقويض الحكم الذاتي المحدود أصلًا.
أما عمار أبو بكر، رئيس غرفة تجارة جنين، فأعرب عن قلقه من أن الهدف النهائي قد يكون الضم الفعلي للضفة.
"إنهم يبعثون برسالة أنهم يريدون الضم"، قال في إشارة إلى التصريحات المتكررة من مسؤولين إسرائيليين بارزين يدعون علنًا إلى فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية.
والقلق لا يقتصر على المسؤولين المحليين. سكان المخيمات يرون في ما يحدث تهديدًا لرمزية مخيماتهم كأحد أبرز معالم قضية اللاجئين الفلسطينيين. بحسب جرار وأبو بكر، أبلغهم ضباط إسرائيليون في يناير أن مخيم جنين سيُحوّل إلى "حي سكني عادي"، مع إنهاء دور وكالة الأونروا، وهي المؤسسة الدولية التي ترعى خدمات اللاجئين الفلسطينيين منذ عقود.
وقالت الصحيفة إن الجيش الإسرائيلي نفى اتهامات التهجير القسري، لكنه لم يقدم بدائل واضحة للسكان الذين أجبروا على المغادرة.
في المقابل، يحاول البعض إيجاد مأوى مؤقت. محمد أبو وصفة، أحد سكان المخيم، أصبح الآن يساعد عائلات نازحة للاستقرار في شقق صغيرة مخصصة لطلاب الجامعة. "نحن نعيش في المجهول... فقدنا السيطرة على كل شيء"، قال بألم.
ومع استمرار العمليات العسكرية وتوسع نطاقها، تتصاعد المخاوف من أن ما يجري ليس مجرد حملة أمنية، بل عملية ترحيل منظمة قد تعيد تشكيل الخريطة السكانية للضفة الغربية بشكل دائم.