تخضّب الرداء الأبيض بالأحمر القاني، بعدما قررت "إسرائيل" تحويل من يرتديه إلى هدف مشروع لصواريخ طائراتها وقذائف مدفعيتها، في حرب إبادة، لم يشهد التاريخ المعاصر نظيرا لها، ضمن عملية استهداف ممنهجة للقطاع الصحي منذ بداية الحرب.
بين شهيد وجريح وأسير، أو نازح بعيدا عن سكنه، تحت مرمى التهديد والخوف، أصبحت حياة الكادر الطبي في قطاع غزة.
وتسببت عمليات الاستهداف المباشر للطواقم الطبية، باستشهاد نحو 1400 كادر صحي، إضافة لاعتقال 362 آخرين، أعدم الاحتلال 3 منهم تحت التعذيب في السجون الإسرائيلية.
كما أصيب أكثر من 1500 من الكوادر الطبية بجروح متفاوتة، نتيجة الاستهداف المباشر، أثناء أداء مهامهم الإنسانية؛ تبعا لإحصاءات المكتب الإعلامي الحكومي.
وعلى صعيد المشافي والمراكز الصحية، فإن 38 مستشفى و81 مركزا صحيا و164 مؤسسة صحية تعرضت للتدمير أو الحرق أو الإخراج عن الخدمة خلال حرب الإبادة، وفق المكتب الإعلامي الحكومي.
استهداف مقصود
ولم يكن استهداف تلك الكوادر صدفة أو مجرد خطأ في التشخيص؛ بل كان مركَّزًا ومقصودًا للكادر الطبي، في محاولة واضحة للنيل من كوادر غزة الطبية، وتفريغها من الكفاءات، وفق ما يرى رئيس جمعية العودة رأفت المجدلاوي.
ولفت المجدلاوي، في حديثه لـ وكالة سند للأنباء، إلى أن الاحتلال تعمد استهداف الكوادر الطبية النادرة خاصة المتخصصين في بروتوكولات علاج السرطان، الذين تلقوا تدريبات طويلة في قطر والأردن، مما أفقد المنظومة الصحية كفاءات لا يمكن تعويضها بسهولة.
وطال الاستهداف الإسرائيلي، من بين تلك الكوادر، الطبيبان محمد دبور، رئيس قسم علم الباثولوجي، وحسام حمادة، أخصائي علم الباثولوجي.
وقبلهما، ارتقى مختص الحروق والجراح في مجمع الشفاء الطبي الطبيب مدحت صيدم، بعدما سقط صاروخ إسرائيلي على منزل العائلة، ليستشهد الطبيب صيدم مع جميع أفراد العائلة تحت ركام منزلهم.
واستمر حصاد آلة الحرب الإسرائيلية ليشمل رئيس قسم علم الأمراض في الجامعة الإسلامية ومستشفى دار الشفاء علي دبور، الذي استشهد في منزله مع والدته وابنه، إضافة إلى جرّاح العظام المميز همام الديب، وغيرهم.
وتضاف إلى هؤلاء، قائمة طويلة من أمهر الأطباء وأبرز العقول، الذين كانوا جزءا من بنك أهداف "إسرائيل".
ويحذر المجدلاوي من أن الفجوة في الخدمات الصحية، إثر استهداف الأطباء، ستستمر لسنوات، ولن تنتهي بانتهاء العدوان، بل سنحتاج إلى 5 سنوات على الأقل للوصول إلى مرحلة التعافي، ثم إعادة بناء المنظومة من جديد.
وتشير الأرقام الصادرة عن وزارة الصحة، منذ بدء الحرب، إلى استهداف 38 طبيبًا من قطاع غزة، من خلال قصف بيوتهم بشكل مباشر ومتعمد.
وتبين كذلك استشهاد 24 طبيبا صيدلانيا، و11 طالب طب، و65 ممرضًا، و14 فني مختبرات، و6 فنيي علاج طبيعي، و3 أكاديميين في العلوم الصحية، و18 ضابط ورجل إسعاف.
ويضيف نائب مدير عام المستشفيات بغزة أيمن الفرا، أنّ قرابة 400 كادر طبي قد أجبروا على مغادرة القطاع منذ بداية حرب الإبادة.
وفي حديث خاص بـ "وكالة سند للأنباء"، بين الفرا بأن عملية التهجير لهذه الكوادر كان تحت وقع النار والتهديد.
وتابع: تخصص الأنسجة يعد أكثر التخصصات طلبًا في هذه الحرب؛ نتيجة لطبيعة الإصابات؛ هناك فقط 3 استشاريين تم توزيعهم على مستشفيات القطاع؛ ويتنقلون يوميا بين المشافي ليسدوا الحاجة.
ولفت إلى قتل الاحتلال الطبيب عدنان البرش بعد اعتقاله، وهو الذي يعد واحدا من أمهر أطباء العظام، والذي شغل رئيس قسم العظام في مستشفى الشفاء.
وبين الحاجة المهمة لهذا التخصص، في ظل الاستهداف الكبير الذي يتسبب بحدوث إصابات وتفتت في العظام لدى الجرحى.
ويزيد الفرا: "نحن أمام تخصصات عمل الاحتلال على إنهاء المتخصصين فيها؛ ما يعني حكما بالموت المحقق للمصابين، أو في الحد الأدنى تركهم بإعاقات وإصابات دائمة".
ويشير إلى تخصصات أخرى كالصدر والوجه وغيرها من التخصصات، التي يحتاجها القطاع في ظل الاستهداف الجنوني للمواطنين في القطاع.
التجويع
ثمة سلاح آخر يستهدف فيه الكادر الطبي في القطاع، يتمثل في سلاح التجويع الذي بات سيفا مشرعا في وجه العاملين في المنظومة الصحية بالقطاع.
ويقول الفرا في حديثه لـ وكالة سند للأنباء، إن ما يحصل عليه الموظف يكاد يوصف بالمعونة المالية، صرفت آخرها بعد 3 أشهر تقريبا لم يتلق فيها ما يعينه في بيته.
وأوضح الفرا أن جميع العاملين بوزارة الصحة؛ هم في وضع الطوارئ القصوى؛ التي تتطلب وجودهم بشكل دائم في عملهم.
ويستدرك بالقول "لا أبالغ إن قلت إن الجوع يضرب أطناب بيوتنا جميعا؛ فعلاوة عن عدم توفر شيء؛ لا يملك الموظف ما يشتري به شيء"، وهو تحد إنساني آخر يجد فيه الطبيب والممرض والعامل في المنظومة الصحية أمام سيف التجويع والحصار، علاوة عن الاستهداف.
ووفق المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، فإن استهداف "إسرائيل" لمستشفيات قطاع غزة بغارات جوية مكثفة وعنيفة يمثل حلقة في سلسلة الممارسات، التي تهدف إلى تدمير سبل النجاة وأماكن الملاذ الأخير للسكان، في إطار الإبادة الجماعية في قطاع غزة.
وفي تصريحات له، أوضح مدير عام المستشفيات في غزة محمد زقوت، أن عدوان الاحتلال أخرج المستشفيات الكبرى من الخدمة، فيما حالت الاستهدافات المتواصلة بحق المستشفيات، دون استمرار تقديم الرعاية الطبية للجرحى والمرضى.
وأشار أن مسيرات الاحتلال أطلقت النار بشكل مباشر على قسم العناية المركزة في المستشفى الاندونيسي، فيما مستشفى العودة تعرض الى قذائف وإطلاق نار من المسيرات ما يعرض حياة المرضى والجرحى والفرق الطبية للخطر المباشر.
والجمعة، حذر المدير العام لوزارة الصحة منير البرش، من النقص الحاد في المستلزمات والكوادر الطبية والعناية المركزة في المستشفيات، مبيناً أن انعدام الأمن المائي والصرف الصحي يشكل عبئا على الوزارة.
ونبَّه أن جيش الاحتلال الإسرائيلي يتعمد استهداف مستشفيات القطاع بشكل ممنهج، بينما يستخدم أسلحة حديثة ومحرمة دوليا في استهداف المنشآت المدنية.
يُشار إلى أن جيش الاحتلال دمر 85% من الخدمة الصحية في قطاع غزة، ما تسبب بفقدان السيطرة في القطاع الطبي، حيث أصبح التعامل مع المصابين محدوداً للغاية.