أكدت صحيفة الغارديان البريطانية، أن الاتحاد الأوروبي يواجه لحظة حاسمة بشأن علاقاته مع دولة الاحتلال الإسرائيلي بين تطبيق عقوباته التجارية على تل أبيب أو التراجع إلى مستوى اللاأهمية.
وبعد أكثر من 600 يوما من الصمت والتواطؤ الأوروبي تجاه المجازر الإسرائيلية في قطاع غزة في إطار حرب الإبادة الجماعية المستمرة، بدأت مؤشرات تغير حقيقي تظهر في مواقف العواصم الأوروبية، حسبما أبرزت صحيفة الغارديان.
وقالت الصحيفة إنه مع تصاعد الجرائم الإسرائيلية بحق المدنيين، من قصف المدارس والمستشفيات إلى منع المساعدات والدعوات العلنية للتطهير العرقي، أصبحت الأفعال الإسرائيلية ببساطة "فاضحة" لدرجة يصعب معها تجاهلها أو تبريرها حتى لدى أكثر المتواطئين.
وفي الأسابيع الأخيرة، ظهرت سلسلة من المواقف الأوروبية غير المعتادة: توبيخات دبلوماسية، تصريحات شديدة اللهجة، وتهديدات بفرض عقوبات، كلها تشير إلى أن "القطيع النائم" الأوروبي بدأ يتحرك، وفق تعبير الصحيفة.
خطوة غير مسبوقة: مراجعة اتفاقية الشراكة
أبرز هذه التحركات كان ما أقدمت عليه هولندا، حيث طالب وزير خارجيتها كاسبار فيلدكامب بمراجعة امتثال إسرائيل للمادة الثانية من اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، والتي تشترط "احترام حقوق الإنسان" كأساس للعلاقة التجارية.
وبالفعل، أيّد 17 من أصل 27 دولة في اجتماع وزراء الخارجية بتاريخ 20 مايو/أيار هذه الدعوة، لتعلن مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد، كايا كالاس، انطلاق المراجعة رسميًا.
وقالت الغارديان إن هذه المراجعة – رغم أنها متأخرة – تمثل تغيرًا جذريًا في المزاج الأوروبي. فعندما طرحت أيرلندا وإسبانيا فكرة مشابهة قبل عام، قوبلتا بالإهمال. الآن، حتى دول وسطية تقليديًا مثل هولندا تنضم إلى معسكر أكثر انتقادًا لإسرائيل، بينما لا تزال أقلية من أشدّ الحلفاء مثل ألمانيا وإيطاليا والمجر ترفض المراجعة.
هل المراجعة كافية؟
تشير الصحيفة إلى أن المراجعة ليست سوى خطوة أولى، ومن المفترض أن تنتهي بحلول اجتماع الوزراء في 23 يونيو/حزيران. لكن مع الكم الهائل من الانتهاكات التي توثقها المؤسسات الحقوقية والمحاكم الدولية، فإن مجرد فتح المراجعة يبدو كمن "يقف أمام مبنى يحترق ويطالب بتقييم ما إذا كان هناك حريق"، وفق تعبير ناشط إيرلندي نقلته الصحيفة.
النتائج المنتظرة تعتمد الآن على موقف شخصيتين أساسيتين: كالاس، التي بدأت تنأى بنفسها عن موقفها السابق المهادن، وأورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، المعروفة بولائها الشديد لإسرائيل.
وعلى الرغم من صمتها الطويل، فإن فون دير لاين وصفت الأسبوع الماضي قتل المدنيين الفلسطينيين بأنه "فعل شنيع ولا يمكن تبريره"، وهي سابقة في مواقفها.
الضغط التجاري: سلاح فعّال بيد أوروبا
بحسب الغارديان، فإن الورقة الأكثر فعالية لدى أوروبا ليست الخطاب السياسي بل النفوذ الاقتصادي. فالاتحاد الأوروبي هو أكبر شريك تجاري لإسرائيل، ويستحوذ على 32% من تجارتها.
في المقابل، لا تمثل دولة الاحتلال سوى 0.8% فقط من تجارة الاتحاد. وبالتالي، فإن تعليق بند التجارة التفضيلية في اتفاقية الشراكة – وهو ما يمكن تمريره بالأغلبية المؤهلة وليس بالإجماع – سيكون له وقع اقتصادي فعلي.
وتشير الصحيفة إلى أن تعليق هذا الامتياز قد يفرض رسوماً جمركية على الصادرات الإسرائيلية ويحدّ من وصولها إلى السوق الأوروبية، كما أنه قد يؤدي لتعليق مشاركة إسرائيل في برنامج "أفق أوروبا" البحثي، مما يقلق الأوساط الأكاديمية الإسرائيلية.
مع ذلك، لا تزال العقبة الكبرى أمام تنفيذ هذه الإجراءات هي مواقف الدول الكبيرة كألمانيا وإيطاليا. فحتى الآن، لا يوجد ما يشير إلى تغير موقفيهما.
لكن بحسب الغارديان، فإن استمرار دولة الاحتلال في سياساتها الوحشية قد يدفع حتى برلين لإعادة حساباتها، خاصة بعد الانتقادات غير المسبوقة التي وجهها المستشار الألماني فريدريش ميرتس مؤخراً إلى تل أبيب.
اختبار لمصداقية أوروبا
تحذّر الصحيفة من أنه إذا تجاهل الاتحاد الأوروبي نتائج المراجعة، فسيُفرغ المادة الثانية من مضمونها ويقوّض كل التزام أوروبي بمبادئ حقوق الإنسان.
فمنذ تسعينيات القرن الماضي، علّق الاتحاد امتيازات مماثلة لأكثر من 20 دولة، معظمها في أفريقيا، بسبب انتهاكات حقوق الإنسان. تجاهل الحالة الإسرائيلية هذه المرة سيكون بمثابة نفاق مكشوف.
وترى الغارديان أن هذا التحرك يمثل فرصة لأوروبا لاستعادة دورها كفاعل دولي له تأثير، بعد شهور من اللامبالاة والتبعية. فقد أثبتت الأحداث أن الحوار دون ضغوط لا يجدي نفعًا.
وعندما ناشد الاتحاد الأوروبي الحكومة الإسرائيلية في فبراير/شباط لتسهيل دخول المساعدات ووقف الاستيطان، جاء الرد بزيادة الحصار وتسارع الاستيطان. لكن مجرد التلويح بالعقوبات دفع حكومة نتنياهو لتقديم تنازلات طفيفة، ما يؤكد فعالية الضغط الاقتصادي.
وفي ختام تحليلها، تؤكد الغارديان أن الاتحاد الأوروبي بات أمام لحظة حاسمة: إما أن يثبت التزامه الحقيقي بحقوق الإنسان ويحمّل دولة الاحتلال كلفة جرائمها، أو يتورط إلى الأبد في التغطية على جريمة تطهير عرقي. أوروبا تمتلك الأدوات والنفوذ، ويبقى السؤال: هل تملك الإرادة؟