في وقتٍ تتعمق فيه كارثة غزة يوماً بعد يوم، أضاءت صحيفة لوموند الفرنسية على جانب خطير من المشهد الدموي: استخدام الجوع كسلاح حرب، حيث يتحوّل الطعام والدواء إلى أوراق ضغط تُستخدم لتركيع السكان وإجبارهم على النزوح أو القبول بالأمر الواقع.
وبحسب تحقيق لوموند، أعلنت الإدارة الأميركية هذا الأسبوع تخصيص 30 مليون دولار لدعم الجهة المسؤولة عن توزيع المساعدات في غزة.
خطوةٌ تصفها الصحيفة بأنها تأتي في سياق محاولات واشنطن لإظهار انخراطها الإنساني في تهدئة الأوضاع، لكنها في حقيقة الأمر لا تغيّر شيئاً من واقع الأزمة العميقة.
ترتيبات مؤقتة… وأزمة بلا حل
تنقل لوموند عن مصادر دبلوماسية غربية قولها إن الإدارة الأميركية تحاول من خلال هذا التمويل توجيه "رسالة سياسية" بأنها تتابع الوضع الإنساني، لكنها في الوقت ذاته تدرك أن المساعدات الحالية لا تتجاوز كونها ترتيبات مؤقتة لا تعالج جذور الأزمة. فلا المعابر تُفتح بشكل مستقر، ولا إدخال الشاحنات يتم بعيداً عن التدخلات العسكرية أو الابتزاز السياسي.
وتؤكد المصادر أن الوضع مرشح لمزيد من التعقيد، خصوصاً مع الاتهامات المتصاعدة ضد الجهة المتعاقدة مع المنظمات الدولية لتوزيع المساعدات، وهي مؤسسة تُعرف إعلامياً باسم "مؤسسة غزة الإنسانية"، والتي تتعرض لانتقادات واسعة بسبب غياب الحياد واتهامات بالتلاعب في توزيع المساعدات.
فوضى التوزيع… والجوع كأداة تهجير
وثقت لوموند عبر شهود وتقارير ميدانية مشاهد الفوضى المروعة التي تحيط بمراكز توزيع المساعدات. إذ تتكدس آلاف العائلات لساعات طويلة على أمل الحصول على كيس طحين أو عبوة زيت، بينما تعترضهم حواجز أمنية، وتطلق أحياناً النار فوق رؤوسهم لتفريق الحشود.
وتنقل الصحيفة عن مصادر محلية قولها إن الهدف من إشراك ما تُسمى "مؤسسة غزة الإنسانية" في هذه العملية هو "الضغط على السكان ودفعهم إلى النزوح جنوباً باتجاه مراكز تجمع قسرية"، في إطار سياسة ممنهجة لإفراغ شمال غزة ووسطها من سكانها.
وصف الموقع ما يجري بأنه "عملية تهجير عبر التجويع"، مضيفاً أن الخطة بدأت تتعثر بسبب الصمود الشعبي، لكن هذا لا يُنبئ إلا بمزيد من الوحشية في الأسابيع المقبلة، خاصة مع اقتراب حرارة الصيف ومحدودية المياه الصالحة للشرب.
الجوع كسلاح عسكري
منظمات حقوقية عديدة، منها هيومن رايتس ووتش ومنظمة أطباء بلا حدود، حذّرت مراراً من استخدام إسرائيل التجويع كسلاح حرب، معتبرةً ذلك جريمة حرب بموجب القانون الدولي. إذ تمنع اتفاقيات جنيف بشكل صريح استخدام حرمان السكان المدنيين من الطعام كوسيلة قتالية.
تقول مديرة مكتب الشرق الأوسط في هيومن رايتس ووتش، لمراسل لوموند: "ما نشهده ليس مجرد أزمة إنسانية أو سوء إدارة. إنها سياسة عقابية ممنهجة تهدف إلى تدمير الإرادة الجماعية للسكان وإجبارهم على النزوح أو الخضوع لشروط الاحتلال".
وفي السياق نفسه، كشف تقرير حديث لبرنامج الغذاء العالمي أن أكثر من مليون شخص في غزة على حافة المجاعة، وأن الوضع يزداد سوءاً بسبب القيود الشديدة المفروضة على دخول المواد الغذائية والوقود.
المساعدات رهينة الحسابات السياسية
أشارت صحيفة لوموند إلى أن إعلان واشنطن تخصيص المبلغ الجديد لدعم توزيع المساعدات لا يُخفي حقيقة مريرة: المساعدات أصبحت رهينة للحسابات السياسية والعسكرية. فالجيش الإسرائيلي يسيطر على نقاط التفتيش والمعابر ويُقرر ما يدخل وما يُمنع، ما يجعل المساعدات أداة تفاوض أكثر منها استجابة إنسانية.
الأخطر من ذلك، كما يقول محللون تحدثت إليهم الصحيفة، أن هذا الواقع خلق "سوقاً سوداء للمساعدات" حيث تُباع المواد الغذائية بأسعار خيالية لا يقدر عليها غالبية سكان غزة الذين فقدوا أعمالهم ومنازلهم.
وتداعيات استخدام الجوع كسلاح حرب لا تقف عند حدود المعاناة المادية. إذ تسجل المنظمات النفسية ارتفاعاً حاداً في معدلات الاكتئاب والانتحار بين سكان غزة، خاصة بين الأطفال والنساء، نتيجة الإحساس بالعجز والجوع والإذلال.
تقول أخصائية نفسية من غزة للوموند: "أسمع يومياً من أمهات أنهن لا يجدن ما يُطعمْن به أطفالهن سوى الخبز الجاف أو الماء المحلّى بالسكر. الأطفال ينهارون بالبكاء، وبعضهم فقد القدرة على الكلام. هناك جيل بأكمله يُدمر نفسياً".
أفق مسدود… وأزمة مستمرة
يختم تقرير لوموند بنبرة قاتمة: "لا يبدو أن المساعدات الأميركية أو أي جهود إغاثية دولية ستنجح قريباً في كسر الحصار أو وقف سياسة التجويع. فالوضع في غزة تحول إلى رهينة لإستراتيجية عسكرية أوسع، يُستخدم فيها الجوع لترسيم خرائط جديدة على حساب البشر".
وفي حين تتواصل بيانات الشجب والاستنكار، يبقى سكان غزة محاصرين بين شبح المجاعة ومخالب القصف، وسط عجز دولي متواصل عن وقف هذه المأساة الإنسانية المستمرة.