بين عبق الماضي وحداثة العصر تاهت عادات تنفسها المجتمع الفلسطيني على مدار عقودٍ مضت، وساهمت بتشكيل ملامحه في المناسبات الاجتماعية وغيرها.
وألقت حداثية العصر بصمتها وآثارها على تفاصيل عريقة في أبجديات الأضاحي وتفاصيل البهجة في عيد الأضحى، هذه الآثار ارتبطت بزيادة مضطردة في أعداد السكان واهتمام الفلسطيني بالزراعة الحيوانية من جهة، وتمتين أواصر النسيج الاجتماعي من جهة أخرى، فما الذي تغير ؟
في امتداد المجتمع الفلسطيني تنوعت العادات والسلوك وحيثيات التراث، وكان للتنوع دور في إثراء الحالة اليومية كمنظومة سلوكية تجذرت فيها الإيجابيات رغم معاول الهدم التي استهدفت عناصر القوة والتماسك الداخلي للمجتمع، شكلت فيها الجغرافيا والإستراتيجية أهمية قصوى اتجهت بسببها الأنظار لإحداث التغييرات الناظمة لتحكم الضعف في التفاصيل سلبا.
"وكالة سند للأنباء" فتحت الملف بأبعاده الدينية والاقتصادية والاجتماعية وملامح الوعي الذاتي، وهي محاور تأثرت مع الحداثة والوضع الاقتصادي وأولويات الاهتمام الفردي والجمعي في مجتمع لم يتركه الاحتلال ينمو ويزدهر.
فقدان البهجة
وتنصب رؤية مفتي بيت لحم الشيخ عبد المجيد العمارنة في البحث عن تغير العادات والسلوك في ما يتعلق بالأضحية، واعتمادها السابق على التربية الذاتية للأضحية في بيت المضحي فيما تاشلت عملية التربية للأغنام في الريف تحديدا، ما استدعى ارتفاعا متصاعدا في أسعار الأضاحي وتراجع الإقبال عليها.
ويستذكر الشيخ "العمارنة" أيام الطفولة عندما كانت الأسرة تجتمع على الأضحية أمام المنازل حيث تنتشر البهجة في الحي والقرية، وباتت ظاهرة الأضاحي ميسرة ومنتشرة، وثقافة العيب على من لا يضحي وتبادل لحوم الأضاحي كهدايا بين فئآت المجتمع، مع إنكفاء واضح لصالح عدم الذبح لتشابك تفاصيل الحياة وحداثتها.
النوم برفقة الخروف
ويشير السبعيني الحج أسعد لولح من بلدة عورتا جنوب شرق نابلس، لفرحة الصغار قبيل مواعيد ذبح الأضاحي قائلًا: "كنا ننام مع الخروف في مهجعه وكانت البهجة منبعثة كل تفاضيل العيد، خاصة عند توزيع اللحم الملفوف بورق الجرائد".
ويقارن أبو الرائد كنعان من بلدة زيتا جماعين جنوب نابلس بين أضاحي السنوات الماضية وهذه الأيام: "الخروف كان يكفي العائلة الكبيرة في القرية الواحدة في حالة قريته التي بلغ عددها خمسمائة شخص، وقفزت لثلاثة آلاف وخمسمائة لا يكفيها العجل الواحد حاليًا".
تزيين الأضحية
ولا ينسى رئيس لجنة زكاة نابلس الأسبق عبد الرحيم الحنبلي مظهر الأضاحي قديما وتزيينها بأكاليل الزهور كعلامة للبهجة والفرح مع التكبير والتهليل في الأحياء خلال أيام عيد الأضحى.
وأشار "الحنبلي" إلى تراجع دعم الأضاحي والتبرع بأثمانها من مؤسسات خيرية تدعم الشعب الفلسطيني وتراجعت لأسباب عديدة.
ويعزو منسق هيئة الأعمال الخيرية العالمية في الضفة إبراهيم الراشد تراجع أعداد الأضاحي في الضفة الغربية لتحكم الاحتلال بالاقتصاد الفلسطيني وارتفاع أسعار الأعلاف واحتكارها من الشركات الإسرائيلية وغياب البدائل الوطنية في الوقت الذي يتوجه البعض لدفع أثمان الأضاحي لتذبح في الخارج ومن ثم إعادة اللحوم للضفة سواء للفقراء أو لأصحابها.
مراجيح وقرش العيد
ويستعيد المربي سعد إبراهيم أيام الطفولة في العيد، ويقول: "كان العيد يتركز على اللهو بالمراجيح في أطراف المدينة وركوب الجمال والخيول المزينة بينما ينال الطفل قروش العيدية كأنها خزينة الدنيا".
ويُتابع "إبراهيم": "لقد ذهبت البركة والبهجة، واليوم تبقى محلات الحلاقة والتزيين حتى ساعات الفجر بينما كانت الحلاقة عالقرعة أفضل أنواع الحلاقة لنا جميعا في العيد".
حلوى الأموات
وكانت تنتشر ظاهرة التكبير انطلاقا من المسجد نحو المقبرة التي تنتظر توزيع الحلوى في المقابر صدقة عن أرواح الأموات خاصة الذين يمر على رحيلهم العيد الأول.
ويقوم بالمهمة الصغار بفرح غامرٍ وهم يرتدون ملابس زاهية وتعلوهم السعادة فيما كانت حلويات البيوت متواضعة ودون تبذير عكس ما يحدث اليوم من تفاخر وتباهي، وفق ما حدثنا به عضو المجلس التشريعي داوود أبو سير.
وقديمًا كان الصغار يشترون البلالين الملونة وغيرها من الألعاب بثمنٍ زهيد، ويقضون أيام العيد في شوارع الحيّ كما لو أنهم حازوا الدنيا، بينما تتوفر اليوم الألعاب الثمينة والتقليدية للسلاح، لكنّ دون الشعور بـ "الفرح الحقيقي" خلال العيد، وفق ما اجتمع عليه الضيوف.
ويخلص مفتي بيت لحم الشيخ "العمارنة" لغياب الطمأنينة والسكينة التي كانت تميز العيد "أيام زمان" يقابلها اليوم تفكك العوائل، وغياب روحانية العيد وطقوسه لتحل بدلًا عنها مظاهر شكلية انتشر فيها التواصل الرقمي على حساب التواصل الاجتماعي الحي.