للوهلة الآولى، تظن أن ما يحدث داخل حي تل الرميدة الواقع غرب البلدة القديمة بالخليل، هو ضرب من المبالغة أو المغالاة في وصف بشاعة وقسوة ما يعيشه سكانه، فهم مجبرون على التعايش مع واقع وإجراءات لا تشبه إلا حياة السجون، فأهل الحي لا يصلون منازلهم إلا بعد التدقيق بهوياتهم، وتفتيشهم، بل أنهم أيضًا ممنوعون من الوصول لمنازلهم بالمركبات، فدخول المركبات محرّم عليهم، حتى لو كانت سيارة إسعاف!
هكذا يعيش أهالي الحي البالغ عددهم قرابة 600 فلسطيني، حرية مع وقف التنفيذ، ومرور مشروط بثلاثة حواجز وكاميرات مراقبة تصل حتى نوافذ منازلهم، ليمسي الحي بأكمله سجن مراقب على مدار اليوم، وأهله محكومون بإجراءات الجنود على الحاجز.
تفاصيل الحياة اليومية التي قد لا يعبأ بها الناس في الوضع الطبيعي، هي أمر عسير ومعقّد وبحاجة للدراسة والتنسيق لأيام لقضائها، على سبيل المثال، ما حصل مع المواطن الستيني تيسير أبو عيشة أحد سكان تل ارميدة، الذي انتابته الحيرة حول كيفية إصلاح تسريب خزان المياه الرئيسي لمنزله، فهو لم يعد بإمكانه القيام بهذه المهمة بنفسه، ولا يمكن للعامل المختص أن يصل إليه، فالدخول للحي لغير سكانه بحاجة لإجراءات وتنسيق تمتد لأيام.
تفاصيل أخرى، قد لا تخطر لأحد لبساطتها، كنقل أنبوبة الغاز، وحاجيات المنزل اليومية من خارج الحي، يجب أن تمر بعدة حواجز مشياً على الاقدام وأنت تحملها، أو يتم الاستعانة بالدواب والحمير، ويهي الأخرى بحاجة للموافقة، فمنذ عام 2002 لا يسمح لأهالي الحي استخدام المركبات.
حياة معقدّة..
يحدثنا "أبو عيشة" عن التفاصيل اليومية لحياتهم داخل الحي: "أسكن على بعد أمتار من المستوطنة، وأحتاج للتقدم بطلب للارتباط الفلسطيني لإجراء تنسيق فلسطيني – إسرائيلي قد يستغرق أيامًا لأجل إصلاح عطل الثلاجة أو الغسالة، فالجنود لا يسمحون لأحد بالوصول لمنزلي، إلا من كان مسجلاً لديهم على الحاجز".
تلك الإجراءات حرمت عددًا من أشقاء "أبو عيشة" وأبنائه وبناته وأحفاده غير المسجلين على الحاجز ولا يحملون أرقاماً من زيارته، ومنذ سنوات لا يتمكن من رؤيتهم إلا خارج الحي، ما يضطره حين إجراء المناسبات والولائم لإقامتها خارج الحي؛ ليضمن حضور جميع أبنائه وأشقائه من الدائرة الاولى.
ويسرد لـ "وكالة سند للأنباء": "الوصول للمنزل لا يمكن إلا عبر المرور من مدخل المستوطنة، ولا يفصله سوى شارع واحد، ويمنع على الصحفيين والحقوقيين والأجانب الوصول للتضامن معنا، حيث نتعرض بشكل يومي لاعتداءات من قبل المستوطنين من رشق بالحجارة وزجاجات المياه، لا أتذكر أنه مر يوم دون أن أتعرض لاعتداء حتى لو بالسباب والشتائم".
ويرى ضيفنا، أن الاحتلال يمارس سياسة الترحيل الصامت ضد سكان المنطقة عبر مزيد من التضييق ومنع التواصل، في محاولة منه لدفعهم للرحيل من منازلهم المشيدة منذ 100 عام، لكن رغم ذلك فروح التحدي والصمود موجودة وثابتة لدى أهالي الحي.
حواجز وأرقام..
الناشط في تجمع المدافعين عن حقوق الإنسان عماد أبو شمسية، وهو أحد سكان تجمع تل ارميدة، يصف واقع المنطقة بالسجن الكبير المحاط بثلاثة معابر، يخضع المواطنين بداخلها للتنكيل والتفتيش اليومي، ويُمنع على من لا يحمل رقماً أن يدخل المنطقة ضمن سياسة الترقيم التي بدأت عام 2017 عدا عن ثلاثة حواجز في داخل الحي.
ويوضح "أبو شمسية" في حديثه لـ "وكالة سند للأنباء"، أن ثلاثة حواجز تلف تل ارميدة ومدخل شارع الشهداء، وتقع على مدخل منطقة باب الزاوية، ومدخل جبل الرحمة، ومدخل من واد الهرية، إضافة ثلاثة حواجز داخل تل ارميدة، تستهدف المواطنين وتنكل بهم وتمنع الأطفال من اللعب والحركة.
ويقيم الاحتلال أحد هذه الحواجز في وسط الحي، وحاجز على مدخل المستوطنة، وحاجز آخر يؤدي إلى مدرسة قرطبة وروضة شارع الشهداء، وفق "أبو شمسية".
وتخضع عملية الدخول لحي تل ارميدة لإجراءات معقدة، فيجب أن تكون من سكان المنطقة، وتحمل رقماً إضافة للبطاقة الشخصية والأرقام تضمن جميع السكان البالغين حاملي الهويات من الذكور والإناث، فأبو شمسية بحمل رقم 446 و زوجته 447 وكذلك أبناءه.
ويقطن في تل ارميدة 120 عائلة فلسطينية، مكونة من قرابة 600 مواطن، يتعرضون للتنكيل والمضايقات من قرابة 80 مستوطناً استولوا عنوة على أراضي المواطنين، وأقاموا مستوطنة "رامات يشاي" عام 1984 وبدأ البناء فيها عام 1997.
سير على الأقدام فقط..!
ومنذ عام 2002، يُمنع على سكان تل ارميدة الدخول بالسيارات إلى الحي، ويضطرون لنقل احتياجاتهم مشياً على الأقدام أو الاستعانة بوسائل النقل القديمة، كالحمير والدواب فلا مركبات فلسطينية تتواجد داخل الحي، والحركة محصورة بالمشي على الأقدام، بينما يسمح للمستوطنين بقيادة المركبات.
كما ويمنع الاحتلال البناء والترميم في المنازل داخل حي تل ارميدة، أو إدخال معدات البناء منذ عام 2016، حيث أن إدخال كيس من الاسمنت جريمة بعُرف الاحتلال، يُعاقب عليها المواطن في تل ارميدة ، وفق "أبو شمسية".
هذا الواقع الذي يعيشه أهالي تل ارميدة، ألقى بظلاله على العلاقات الاجتماعية والتواصل مع الأقارب خارج الحي، كما يقول "ضيف سند"، مضيفًا: "بات التواصل أمرًا شبه معدوم، وظهرت مشاكل تتعلق في زواج وسكن الأبناء، فلم يعد يقبل بعض المواطنين أن يزوج ابنته لشاب داخل الحي، ويشترط عليه أن يقطن في خارجه، مما يضطر الشباب للانتقال للسكن في أحياء أخرى".
ويحذّر "أبو شمسية"، من أن الاحتلال يراهن اليوم على عامل الوقت في ترحيل سكان تل ارميدة عبر مزيد من التضييق والدفع بالشباب للمغادرة فيسكن هو وزوجته في منزل مساحته 200 متر ودونم أرض وهو واقع كثير من العائلات التي بات يسكن في منازلها كبار السن فقط، مما يدفع بضرورة تحرك جدي لمواجهة هذا الخطر.
معاناة كبار السن..
لا يختلف واقع المعاناة مع ياسر أبو مرخية من سكان تل ارميدة، الذي يشتكي كبقية سكان الحي من الكاميرات التي زرعها الاحتلال، وباتت تصور كل خصوصيات المواطنين مما يضطرهم لإغلاق نوافذ المنازل؛ فالكاميرات المزروعة متحركة وحساسة، عدا عن الكاميرات المنصوبة على الحواجز والتي تكشف عن هوية المواطن وهو قادم للحاجز عبر تقنيات حديثة.
ويشير أبو مرخية في حديثه لـ "وكالة سند للأنباء"، إلى أنه اضطر لشراء كرسي كهربائي متحرك لوالدته البالغة 85 عاماً للتنقل لخارج الحي أو للمستشفى، ويقول: "تتعرض والدتي للتفتيش رغم كبر سنها، ويجب أن نبلغ الجنود للقدوم للتأكد من هويتها وتفتيشها وتفتيش الكرسي خلال الدخول والخروج".
ويلفت "أبو مرخية"، إلى أن عددًا من المرضى توفوا أثناء نقلهم على حمالات لخارج الحي؛ بسبب منع سيارة الإسعاف من الوصول لداخله، كما سجل أكثر من حادث حريق نتج عنه وفيات بسبب منع وتأخير وصول الإطفائية.
ويبين أنه يتعرض كبقية السكان في الحي للتفتيش خلال الدخول والخروج وخلال ذهابه للمسجد رغم معرفة الجنود لأغلب سكان الحي، ويتم تعريض الشبان للتفتيش الجسدي والاحتجاز وحتى الاعتقال، مما خلق حالة معاناة يومية متعمدة من جنود الاحتلال، فلا إسعاف يتمكن من الوصول أو إطفائية، ولو سمح لها بعد التنسيق تتعرض للرشق بالحجارة من قبل المستوطنين.
ويروي ضيفنا، بعض مشاهد المعاناة اليومية للسكان، فنقل نقل أنبوبة الغاز من خارج الحي إلى داخله يشكّل معاناة حقيقية، حيث يضطرون لحملها على ظهورهم للعبور من خلال الحاجز، أو الطلب من الجنود السماح بنقلها عبر عربة تخضع للتفتيش، كما يجب أن ينسق مع مركبة الغاز للقدوم على الحاجز ومع الجنود للسماح له بالنقل.
وتتحول حياة أهالي الحي خلال الأحداث الأمنية والأعياد اليهودية لجحيم حقيقي، وفق تعبير "ابو مرخية"، ويسهب: "يتم إغلاق الحواجز بشكل كامل، ويمنع الدخول والخروج نهائياً، كما يمنع الطلاب من التوجه للمدارس، ويتم اعتقال المواطنين وحجزهم، ويضطر المواطنين للمبيت خارج الحي حال إغلاقه".
وتتصاعد اعتداءات المستوطنين يومي الجمعة والسبت وخلال الأعياد اليهودية، ففي هذه الأيام يكون أهالي الحي على موعد مع اعتداءات المستوطنين والتنكيل والرشق بالحجارة، وزيادة التشديد والتضييق عليهم.