يعيش الفلسطينيون في محافظتي غزة وشمال القطاع، واقعًا مأساويًا للغاية؛ أفرزته الحرب الإسرائيلية الدموية، فهم لا يعرفون طعمًا للاستقرار الآمن في منازلهم منذ 6 شهور، يتنقلون بين البيوت المهجورة وخيِم النازحين ومراكز الإيواء؛ علّهم يجدون ملاذًا آمنًا لأسرهم، في حربٍ أخرى يسمونّها بـ "حرب الميدان".
بدأت معاناة أسرة ميسرة عوض جراء الحرب مبكرًا، بعد أن دمرت طائرات الاحتلال منزلهم الواقع في بيت حانون شمال قطاع غزة، وعقب ذلك نزحت الأم بأطفالها الخمسة من مكان إلى آخر داخل غزة؛ هربًا من نيران الاحتلال وبطشه، رافضةً قرار النزوح إلى الجنوب.
تقول ميسرة لمراسلة "وكالة سند للأنباء" إنها "تعيش في حالة كر وفر منذ بداية الحرب، فما أن يستقر بهم الحال في مكانٍ ما، حتى يعصف به القصف والحصار الإسرائيلي من كل جانب، ويُصبح من الصعب البقاء فيه"
وتوضح أنهم إلى جانب آلاف النازحين مكثوا في بداية الحرب بمراكز إيواء تتبع لوكالة "أونروا" غرب مدينة غزة لنحو شهر، ثم خرجوا منها تحت نيران الاحتلال وقذائفه، متجهين نحو المناطق الشرقية على اعتبار أنها "آمنة" في ذلك الوقت.
ومن مناطق الشرق إلى الشمال ومن ثم إلى الغرب، فالشمال مجددًا، هكذا تبدو حياة ميسرة، مضيفة: "في حلقة دائرية محفوفة بالمخاطر، نتنقل بأطفالنا وحقائب صغيرة كلّما ازداد الوضع الميداني سوءًا في المكان الذي ننزح إليه وكأنه خلاص كُتب علينا التشريد وويلاته".
وتُشير إلى أنّها في المرة الأخيرة قبل حصار مجمع الشفاء الطبي، كانت تستقر في أحد مراكز الإيواء في محيط المستشفى، وعاشوا حصارًا خانقًا لأيام، قبل أن تتمكن من الهرب تحت كثافة النيران الإسرائيلية والقصف الجوي، متوجهةً صوب شمال المدينة".
"وكأن مأساة الحرب والجوع لا تكفي"، بهذه الكلمات تُعبّر ضيفتنا عن قهرها من الحال الذي يحاول الاحتلال فرضه عليهم في مناطق الشمال؛ مردفةً: "قتلونا، قطعوا عنا إمدادات الطعام والماء، وكلما شعروا أننا بدأنا بمحاولة التعايش والاستقرار، قصفونا مرةً أخرى وشردونا (..) أين العالم من هذه المأساة؟".
واقع مؤلم لا يختلف كثيرًا عند إيمان محمد، التي بدأت حديثها مع مراسلتنا بالقول: "عاجزون عن حماية أطفالنا وتوفير ملجأ آمن لهم، ما أن نستقر بمكان يقصفوه، أو يحاصروه، بادعاء ملاحقة المقاومة، والحقيقة أنهم لا يستهدفون سوى المدنيين العُزل".
"إيمان" التي تعيل 3 أطفال لوحدها بعد سفر زوجها قبل اندلاع الحرب بأيام، كانت قد نزحت نحو 7 مرات منذ بدء العدوان الدموي، واستقرت أخيرًا في منطقة الجلاء، تصف حياة التنقل والترحال بأنها "صعبة للغاية وشاقة" خاصة حين تكون تحت زنّ طائرات الاستطلاع، والنيران والقصف العشوائي الذي غالبًا ما يُصيبك وأنت تبحث عن ملجأ آمن.
وتسترسل: "بدأت معاناتنا منذ اللحظة الأولى لخروجنا من منزلنا في مخيم الشاطئ غرب غزة، لكن حاليًا تزداد صعوبة الأيام وقسوتها؛ بسبب تكالب ويلات الحرب علينا من الجوع والتشريد وعدم الاستقرار".
وتنبّه إيمان محمد إلى أنّ أطول فترة استقرار عاشتها العائلة في الحرب، لم تتم الشهرين إذ تتنقل بأطفالها بين فترة وأخرى على امتداد المناطق داخل غزة مشيًا على الأقدام، واصفةً ذلك بـ "حرب الميدان".
وتشعر ضيفتنا بألمٍ شديد حين تجد الخوف ومعاني الشتات والتشريد في عيون أطفالها، ولا تستطيع حمايتهم، أو منحهم الأمان الكافي ليناموا باطمئنان، قائلةً: "في كل رحلة نزوح، لا يتوقف بكاء أطفالي، يشعرون أنها النهاية، وأنّ القذيفة التي أخطأتهم في مرات سابقة، ستُصيبهم هذه المرة، وهذا يشعرني بعجز وقهر".
تؤكد أنّ "الاحتلال يتعمد منذ بداية الحرب استهداف المدنيين والأماكن التي يلجؤون إليها، إما بالقصف المباشر، أو بترويع الناس وإرهابهم عبر الحصار، وقصف محيطه؛ لإجبارهم على الإخلاء".
فقدت زوجها ذات نزوح..
رحلات النزوح المتكررة في غزة أفقدت أم حسن أبو ورد (45 عامًا) زوجها، في ديسمبر/ كانون أول الماضي، ما أوجد شعورًا في نفوس عائلتها بالخوف الشديد من أي قرار بالنزوح، تقول إنها عاشت صعوبات متتالية كانت أقساها حين استشهد زوجها أمام أعين أطفاله، وهم في طريقهم للنزوح من منطقة الجلاء إلى جباليا شمالًا.
وتردف "أم حسن" في حديثٍ مع مراسلة "وكالة سند للأنباء"، أنّهم منذ أيام الحرب الأولى رفضوا فكرة الخروج من غزة إلى الجنوب، وكانوا على يقين أنهم سيدفعون ثمن ذلك كثيرًا، فكان النزوح المتكرر وعدم استقرارهم في مكان ما.
عائلة "أم حسن" المكوّنة من 8 أفراد بينهم 5 بنات و3 أولاد، نزحت منذ بداية الحرب أكثر من 6 مرات، حيث تنقلوا بين مراكز الإيواء التابعة لـ "أونروا" داخل المدينة، وفي كل مرة كانوا يخرجون من تحت النيران، هربًا من الموت.
وتُكمل: "كنّا نصمد حتى اللحظة الأخيرة في المدارس التي نلجأ إليها، على اعتبار أنها أكثر أمنًا من غيرها، لكنهم في كل مرة كانوا يثبتون لنا أن كل الأماكن بغزة تحت نيرانهم وقذائفهم(..) كنّا نخرج والقذائف تُلقى علينا من كل جانب بالتزامن مع إلقاء قنابل دخانية وغاز، ما يعيق حركتنا".
وفي ديسمبر الماضي، لجأت العائلة إلى منازل أحد أقاربها في منطقة الجلاء؛ للاحتماء به، وعند اشتداد القصف، نزحوا مع المئات، نحو مناطق شمالي القطاع، لكن الاحتلال باغتهم بالقذائف والقنص من كل جانب؛ ما راح ضحيته العشرات بينهم زوجها.
تحكي لنا بصوتٍ حزين، أنّه منذ ذلك الحين، ارتبطت في مخيلتهم فكرة النزوح بالموت (..) استشهد زوجي أمام أعين أطفالنا، والمجازر كانت بالجملة يومها، مشينا من بين الجثث، وصرخات الناس تصدح (وين نروح؟ وين نروح؟).
منذ ذلك اليوم، تملّكت حالة الخوف الشديد "أم حسن" وأفراد أسرتها، فهي لم تعد تنتظر اللحظة الأخيرة قبل الموت، لتخرج من المكان الذي تحتمي فيه، تُحدثنا: "قلوبنا لم تعد تحتمل أي مصاب آخر، صرت أتنقل بأولادي، بمجرد اضطراب الوضع الميداني في المكان الذي نسكنه".
وتتابع: "كنت أعيش بمدرسة إيواء قريبة من محيط مجمع الشفاء الطبي، لكن عند سماعي خبر محاصرة المستشفى قبل 10 أيام، لم أنتظر ليلتها إلا طلوع شمس اليوم التالي، وانتقلت مباشرة للعيش في منزل أهلي في مخيم جباليا".
وتصف "أم حسن" حالة النزوح: "ليس اختيارنا أنّ ننتقل كل أسبوعين إلى مكان جديد، الحرب التي نعيشها فرضت علينا أمور كثيرة خارجة عن رغبتنا وإرادتنا، كما أفقدتنا الشعور بالأمن والاستقرار".
يُذكر أن آلة الحرب الإسرائيلية تواصل عدوانها الشامل على غزة، إذ يستمر الاحتلال بالقصف والتوغل في أنحاء القطاع المحاصر مع تعميق المجاعة في شماله؛ ما أوقع 32 ألفا و623 شهيدا، و75 ألفا و92 مصابا، حتى اليوم الجمعة.