الساعة 00:00 م
الأربعاء 01 مايو 2024
22° القدس
21° رام الله
21° الخليل
25° غزة
4.67 جنيه إسترليني
5.27 دينار أردني
0.08 جنيه مصري
3.99 يورو
3.73 دولار أمريكي
4

الأكثر رواجا Trending

أطفال غزة يدفعون ثمن الأسلحة المحرمة

معروف: معلبات مفخخة يتركها الاحتلال بمنازل غزة

العدوان يُفقد "البيتوتي" في غزة مساحته الخاصة: حربٌ أخرى

حجم الخط
نزوح.jpg
غزة - فاتن الحميدي- وكالة سند للأنباء

تكوي حرقة الحرب الدامية على قطاع غزة الماضية في شهرها السابع قلوب مَن أجبرتهم بنيرانها على ترك ذكرياتهم ودفئ بيوتهم، ومَن أقحمتهم في عالم لم يعتادوا عليه، أولئك الذين كانوا يرون ربيع الحياة والأمان في غرفة من أربعة جدران، مَن يفضلُّون هدوء البيت على صخب الحياة، وسرعان ما يعودوا من ضجيج الطرقات إلى "بيتوتيتهم" وعالمهم الخاص.

و"البيتوتي"، هو الشخص الذي يفضل قضاء وقته داخل منزله، وعدم الخروج منه دون هدف أو مقصد ضروري، ويرتبط كثيرًا بتفاصيل منزله وغرفته الخاصة وعائلته.

لم تقتصر حرب غزة على السياسة والاقتصاد والعسكر، بل دمرت نهج حياة في كل بيت، وأجبرت معظم أهالي القطاع على التعايش بشخصيات لا تشبههم، بينما عاثت فساداً في الحجر والشجر والبشر، وهذا ما ذكرنه ضيفتا "وكالة سند للأنباء" الشابتان آلاء عوني ورولا عليوة.

لا يبدو الحنين إلى المخيم الذي يُشبه "علبة السردين" غريبًا، فمثلي عاش كل عمره في أزقة الشاطئ، يحفظ عن ظهر قلب كل تفصيلة فيه، وذاق المعاناة التي نتشارك بها مع سكان مخيمات اللجوء، من اكتظاظ السكان، تلاصق البيوت، مشاكل في المياه والصرف الصحي، والطُرق، وغيرها، ومع ذلك لم أختر يومًا البُعد عنه، ولم أتخيّل أني سأغادره لتُصبح العودة إليه حُلمًا صعب المنال، هذا ما بدأت به آلاء حديثها لمراسلة "وكالة سند للأنباء" بغصة في القلب وجرح شكلته الحرب لا يندمل.

حتى الرمق الأخير..

وعن بداية الحنين، تروي "عوني" لمراسلة "وكالة سند للأنباء" أنه ومنذ بداية الحرب الدموية، شنّ الاحتلال حملة مسعورة على مخيم الشاطئ جوًا وبحرًا، بينما قررت عائلتها البقاء في منزلهم حتى آخر نَفس، بل وأخذوا على عاتقهم بث روح الأمل والثبات في نفوس الجيران، ليبقوا في المخيم ما دام الخطر لم يحاصرهم من نقطة صفر.

وتتابع حديثها الممزوج بغصة في قلبها، "خلال فترة تواجدنا في منزلنا الذي كنّا نأوي فيه نازحين من عوائل مختلفة، كنت أبتعد شيئًا فشيء عن أجواء حياتي الخاصة، أبتعد عن غرفتي لساعات طويلة، بعدما كنت لا أغادرها إلا لوقتٍ قصير".

وتردف: "كما أصبحت لا أجد وقتًا للقراءة، للتأمل، ولا للتدوين، حتى لم أعد قادرة على مواصلة عملي كصحفية بجو رائق، كل شيء يتم بصورة ناقصة وعلى وقع أصوات ممزوجة بين الانفجارات، وصرخات الخائفين حولي".

خرجت "عوني" وعائلتها بعدما غادر المخيم أكثر من 95% من سكانه، وصار القصف يستهدف الشوارع المحيطة بهم، والقناصة تعتلي أسطح بنايات قريبة، والآليات تتقدم نحوه بخطى متسارعة، كما حدثتنا.

ولم تجد "عوني" وصفًا أقرب لتلك الليلة، من "خروج الروح من الجسد"، مردفةً "بكيت كطفل يُودّع آخر معاقل الأمان والحبّ لديه، هذا منزلنا وهذه غرفتي، وهنا كل عالمي وذكرياتي، كيف أغادره بهذه السهولة؟".

وتتابع "نزحنا إلى مكان في محيط مجمع الشفاء الطبي، وبعد حزام ناري ضرب المخيم أوائل نوفمبر 2023 وكان يعتبر حينها الأشد منذ بدء الحرب، عُدت إلى منزلنا في صبيحة اليوم التالي، ورغم أن المخيم كان أشبه بساحة حرب، إلا أنني لم أشعر بأي شيء من الذُعر، تنهدت وأنا أتجول فيه راجيةً من الله أن يحفظه لنا، رتبتّه مجددًا وعطرّته وأغلقت أبوابه، ثم خرجت، ومنذ ذلك الحين لم أعد إليه".

حرب غزة.jpg
 

"أنتِ بيتوتية زيادة عن اللزوم"..

وتسرد لنا تفاصيل القصة، "كانوا يقولون لي أقارب وأصدقاء "أنتِ بيتوتية زيادة عن اللازم"، أرد في نفسي "أين المشكلة في ذلك؟ ما دمت أفعل كل الأشياء التي أحبّها وأعيش حياتي بطولها وعرضها، وبمشاعر كاملة في الحزن والفرح والتأمل لماذا ينبغي عليّ الظهور، وأنا التي أجد مقاصدي كلها في الخفاء وبعيدًا عن الناس".

وترى أنه في الحرب ومع النزوح المتكرر بين المدن، لم يعد هناك خصوصية ولا متسع لأي "بيتوتي" في قطاع غزة، صرت تُجالس في مكان ضيّق ضعف العدد الذي قابلته في حياتك كلها من الناس، وتعيش في بيئة لا تشبهك، مجبر على الاحتكاك بمختلف الأصناف من البشر، والتعامل معهم أحيانًا.

"منزلنا، هو مكان العائلة الأقرب للقلب"، تعبر "آلاء" بكلماتها عن تفاصيل الحب التي تربطها بمنزلها، ليس لأنه الإيواء فحسب، بل بقدر ما كان عامرًا بأحبابه، ولا يكاد يخلو من الزوار، إلا أنّه يحتفظ بسكينة خاصة لأصحابه، وتتابع "يعرفني وشاهد على أحزاني وأفراحي، ونجاحاتي وإخفاقاتي، ومرات ومرات ذاقت أرض منزلنا ملِح دموعي عند السجود".

"بينما في غرفتي التي اخترت أبسط تفصيلة فيها بناءً على المزاج العام الذي يُناسب شخصيتي، فهي عالم آخر كنت ألوذ إليه لساعات طويلة، أقرأ وأدوّن، وأتُمّ عملي، وأشرب كأس النسكافيه على رواق، وأحادث الأصدقاء ولا أملّ أبدًا، إنما أشعر باحتياج لها إن غبت عنها في مشوار عائلي أو مع الأصدقاء"، كما ذكرت "آلاء".

وتصف شعورها "شعور الاحتياج لـ "إنسان بيتوتي" مثلي، قد يثير الاستغراب لكن بالتأكيد ليس مبالغًا فيه، أذكر أنني سافرت خلال العامين الماضيين 3 مرات، في كل مرّة كنت أقول لمن يُراسلني من أهلي وأصدقائي "اشتقت لغرفتي بدي أروّح".

حرب غزة.jpeg
 

غصة أخرى..

تحدثنا "عوني" عن غصة أخرى، "حين وصلتنا الصور التي وثقت حجم الخراب في منزلنا، أخفت عني العائلة ما حل بغرفتي، وبقيت على أمل أن ما طالها دمار خفيف، فيما بعد عرفت أنهم صبّوا كل حقدهم فيها، فجّروا بابها وكسروا الأثاث والنوافذ، حرقوا الستائر، وصار يكسوها اللون الأسود بعدما كانت تُشبه في بياضها غَيمة صافية في ليلة ربيعية عليلة".

تستكمل قولها بعبرات خانقة، "شعرت أن الحريق أصاب قلبي، هذا الفساد لا تفسير له سوى أنهم جيش مسعور فاقد لأدنى خُلق إنساني، لم يُحاربوا أحد إلا وجودنا، وذاكرتنا".

"هذه الحرب أذاقتنا ما لم نكن نتخيله يومًا، ليس سهلًا أن تُصبح العودة إلى منزلك وروتين حياتك أقصى أحلامك، كل شيء بات يقترن بـ "كان" الماضية وأصبحنا رهائن لذكريات حياتنا قبل الحرب".

غربة خارج غرفتي..

أما رولا عليوة (29 عاما)، فقد طار بها شوقها إلى دفئ المنزل، ومساحة الحرية الشخصية، وجدران غرفتها التي كانت بذاتها منزلاً آخر لها، شاهداً على أدق تفاصيل مشاعرها.

تذكر "عليوة" لمراسلة " وكالة سند للأنباء" بعضاً من الحب الدفين للمنزل، فهي التي كانت تخلق الأعذار المتكررة لصديقاتها منعاً للخروج منه، واللاتي ينعتنها بـ "اطلعي معنا يا بيتوتية"، أو تُبادر لإقناع أهلها أنها مريضة ومتعبة للبقاء في غرفتها.

ولا ينفك يلازم "رولا" شعورها بالغربة خارج بيتها الذي تتنقل فيه بحريتها مع أُمها ووالدها وإخوتها، وتخبئ في قلبها شعور الحرقة والشوق لغرفتها الصغيرة ومقتنياتها، بينما تقطن الآن في خيمة مهترئة مع 40 شخصاً آخرين.

وبعد برهة من الصمت والتفكير العميق، تنقلنا "رولا" إلى منحىً آخر مشبعاً بالحسرة، ليس على بيتها وغرفتها وكثير من خصوصيتها، إنما تعدى هذه المرة حدود البيت ليصل إلى مدينة غزة بأكملها، معبرةً عن شعورها "ندمت أنني كنت أحب الجلوس في البيت وأخلق الأعذار للبقاء بغرفتي ليس لأنني لم أعد أحبها، بل بالعكس أطير شوقاً لها"، مستدركةً؛ "ندمت أنني لم أكن لأصنع لي ذكرى في كل مكان بالمدينة.."

وتُغدقنا "عليوة" بشوقها لبيتها وما وصفته بعالمها الخاص، راجيةً أن يعود يوماً واحداً فقط من الماضي لتتشبع فيه بتفاصيل البيت وتفاصيل غزة.

نازحون من غزة.webp