الساعة 00:00 م
السبت 04 مايو 2024
22° القدس
21° رام الله
21° الخليل
25° غزة
4.67 جنيه إسترليني
5.24 دينار أردني
0.08 جنيه مصري
4 يورو
3.72 دولار أمريكي
4

الأكثر رواجا Trending

قنابل وصواريخ غير متفجرة.. خطر يداهم حياة الغزيين

عدنان البرش .. اغتيال طبيب يفضح التعذيب في سجون الاحتلال

بالصور يوم الأرض.. غزة "بيت العائلة الكبير" الذي لا يُمكن هجرانه

حجم الخط
خيام نازحين.jpg
غزة- الاء عوني المقيّد - وكالة سند للأنباء

مرّت ذكرى يوم الأرض (30 آذار/ مارس) على الفلسطينيين هذا العام، وسط حربٍ دموية تشنّها "إسرائيل" على قطاع غزة منذ ستة شهور، وحَملت في جنباتها تفاصيل،يقول جيل اليوم إنها مقتبسة من وقائع نكبة العام 1948، ويعيشون مرارتها كما رواها أجدادهم تمامًا، لكنّهم في الوقت ذاته يتمسكون بالأرض حبًّا وانتماءً ونديّة بالمحتل وإفشالًا مخطط التهجير.

ووسط القتل والتدمير والتجويع والحصار المشدد، شردت حرب الاحتلال المدمرة، نحو مليوني فلسطيني، يقيم غالبيتهم إما في مراكز إيواء، أو في خيام بلاستيكية أقيمت داخل أماكن عشوائية غير منظمة تفتقر لجميع مقومات الحياة، في كثير من مناطق القطاع، في محاكاة لنكبة الأجداد الذين هجّرتهم العصابات الصهيونية التي احتلت فلسطين.

لكن يخرج الغزيون من وسط كل هذه المأساة الممتدة والحزن الذي يغمر أرواحهم، ليؤكدوا تشبثهم بحق العودة إلى منازلهم التي خرجوا منها بفعل الحرب، رافضين فكرة التهجير إلى أي مكان في العالم مهما كلف الأمر من أثمان.

خيام.jpg
 

تسنيم محمد (39 عامًا) كاتبة إعلامية وأم لثلاثة أطفال، كانت تعيش رفقة عائلتها الصغيرة في معسكر الشاطئ للاجئين غرب غزة، تقول إنّها لم تفكر يومًا في مغادرة منزلها، "لكن هذه المرة كانت أقسى من أن نقوى على قرار البقاء"؛ بسبب تتالى القصف الإسرائيلي واشتداده.

فبعد أيامٍ باتت فيه عائلة "تسنيم" في "بيت الدرج" ثم خلا المعسكر من نصف سكانه، وبقي النصف الآخر تحت الركام، تحكي لـ "وكالة سند للأنباء" "في قرار سريع خرجنا من المنزل، لم أفكر كثيرًا كان يقودني إليه ذعر أطفالي وركام الحيّ وصرخات الجيران الذين يقصفون فيه كل ليلة ولا مسعف لهم".

لم تُغيّر "تسنيم" موضع أي شيء في بيتها، وقبل أن تخرج منه تأملته طويلًا، تفحصت كل زاوية وركن فيه، "لم أصبغه بصبغة رحيل طويل، لكنه طال".

تنقلت ضيفتنا خلال فترة تواجدها في مدينة غزة، بين أكثر من مكان، وفي كل مرة كان القصف يشتد أكثر من السابق، تُضيف: "في المرة الأخيرة حاصرونا بالدبابات من كل جانب، ولم يتوقف القصف ولا القذائف المدفعية، وبقينا دون حركة أو ضوء أو صوت، حتى نفد الماء والطعام".

وسط الخوف حاولت "تنسيم" التفكير في الخروج والمكان الذي سنقصده، فكان القرار التوجه نحو وسط القطاع إلى بيت أهلي، بقي فقط أن يتمكنوا من الخروج أحياء.

لم يُفلح الصليب الأحمر بإجلاء المحاصرين، وأبلغهم أنه لا يستطيعون فعل شيء، و"إذا خرجتم فعلى مسئوليتكم الشخصية"، وفي لحظةٍ حاسمة قرروا المخاطرة، واتفقوا مع جيرانهم على المغادرة معًا في وقتٍ واحد رافعين رايات بيضاء، مؤكدةً أنّهم ساروا إلى منطقة النصيرات تحت كثافة النيران، ومن عاش يومها، فقد نجا بأعجوبة.

خيام رفح.jpg
 

أفرزت الحرب للنازحين ظروفًا مأساوية _ والكلام لتسنيم_ "ليس معنا أي شيء، ولا توجد بضائع ولا مستلزمات، وإن وجدت فشديدة الغلاء رديئة الجودة، الطعام والخبز نصنعه على النار، والغسيل نقوم به يدوياً، والدواء بشق الأنفس، والاستحمام بعيد المنال، والبرد قارس، والنوم في مكان مكتظ، والعائلة مشتتة".

"لا مقارنة أبدًا بين ما كنا عليه في بيوتنا آمنين منعّمين وبين هذا الذل والقهر"، بهذه الكلمات تُعبّر "تسنيم" عن المفارقة المؤلمة بين حياتها قبل وبعد الحرب المتسمرة منذ السابع من أكتوبر، مسترسلةً في حديثها: "لم أكن أصدّق أنني تركت بيتي وتركت غزة، بكيت ليلتها طويلًا، لم أكن أتصور أن يطول الأمر إلى هذا الحدّ، مرّ نصف عام، كلما تذكرت ذلك أختنق".

التغريبة تُعاد، وبكل تفاصيلها، لم تكن "تسنيم" كغيرها من الغزيين تتخيل أن تشاهد النكبة حية من جديد، وتعيش مرارتها كما روتها جدتها تمامًا، تُخبرنا: "لا زلت لا أستوعب كيف تركتُ بيتي وخرجت، ولا أتصور فكرة ألا أعود إليه، وأصاب بالذعر كلما تخيلت أنني يومًا ما سأتحول إلى جدتي، أحتفظ بمفتاح بيتي، وأموت على أمل العودة".

ويأتي يوم الأرض هذا العام، ولا أرض كما تقول "تسنيم" فالاحتلال وأعوانه أجمع عربًا وعجمًا، يعملون بجد ونشاط لسلب الأرض، البقعة الصغيرة المعجزة المسماة غزة، وطرد أهلها جميعًا منها.

وتزيد: "الحقيقة أن كثرة المآسي وخراب الحياة هنا كانت تدفعنا في البداية للخوف واليأس وتملؤنا حزناً، ثم بعد مدة، جعلتنا نغلي غضبًا ونصرخ في وجه العالم: هذه أرضنا، أكل هذا الذي نعانيه لأننا نعيش في بلادنا؟ ما هذا الظلم والإجرام؟".

وتختم حديثها معنا: "الآن ومن قبل ودومًا، لم تكن غزة مجرد مدينة نحيا عليها، بل كانت روحًا تسكننا، وفكرة نفتخر بحملها، وأرضًا تتجذر في أعماقنا، ولم تكن بيوتنا سوى حياةٍ وعالمٍ كاملين، فكيف لنا أن ننسى؟ وكيف لنا أن نغفر؟"

"لن أختار مكانًا للعيش سواها"

أسماء نصار (36 عامًا) معلّمة فلسطينية نزحت رفقة أطفالها الأربعة، من منزلها الكائن في مدينة غزة، أكثر من 5 مرات وصولًا إلى منطقة الزوايدة في المحافظة الوسطى، تؤكد أنّه بالرغم من كل ما عانته من مآسي وآلام خلال الـ 6 شهور الماضية، إلا أنها لم تُفكر يومًا بمغادرة القطاع أو التخلي عن بيتها الذي أصبح كومة ركام بعد قصفه بحزام ناري.

تبدو معاناة "أسماء" شبيهة بمئات آلاف الغزيين، فكل بيتٍ في القطاع طال سُكانه الموت والدمار والتشريد، ومعاناة النزوح والترحال المتكرر، حتى أصبحت عذاباتهم تنخر ألمًا في قلوبهم المنهكة بالأساس.

تقول لمراسلة "وكالة سند للأنباء" إنها تمسكت بفكرة البقاء في غزة حتى آخر نفس، حيث تنقلت مع أطفالها من منزل لآخر، لكن تحت وقع القصف الإسرائيلي جوًا وبرًا وبحرًا وحصار بعض المناطق التي كانوا يتواجدون فيها، لم يبقَ أمامها سوى خيار النزوح جنوبًا، فانتقلت للعيش بمنزل أقارب لها في مدينة رفح.

الصدمات النفسية التي يتلاقها أطفالها عند كل رحلة نزوح، ويرافقها عادة ملاحقة مكثفة ومخيفة من قذائف وصواريخ ورصاص الاحتلال، كان السبب الأساسي الذي دفع بـ "أسماء" لاتخاذ قرار النزوح؛ فهي عاجزة عن حمايتهم وحتى عن منحهم شعور الأمان، وفق ما أخبرتنا به.

وتصف الشعور الذي غمرها حين أُجبرت على ترك غزة: "لم أنم ليلة نزوحي إلى الجنوب، بكيت كما لو أنني أوّدع قطعة من روحي، لكن كنت أُعزي نفسي بأنها فترة وتزول، ثم نعود إليها ونعمّرها من جديد"، مشيرةً إلى أنّ الهاجس الذي كان يراودها هو تهجير النازحين في رفح إلى سيناء شمال مسر أو حشرهم في أماكن محددة لا يستطيعون بعدها العودة لبيوتهم.

وتتابع: "حين بدأ الإعلام يتحدث عن عملية اجتياح برية مرتقبة في رفح، كدت أُجن، إلى أين سنذهب وما هو مخططاتهم تجاهنا؟ لم أنتظر كثيرًا، أخذت أطفالي وحقائب فيها احتياجاتنا الأساسية، وذهبت بهم إلى خانيونس ومن ثم إلى الزوايدة(..) قلت في داخلي صرنا أقرب على غزة، وهذا أمر مريح نفسيًا".

"إلى أين ستعودون غزة التي لم يبقَ فيها أي شيء عامر؟" سألناها، فاستبقت التنهيدة إجابتها: "أعرف أنهم أعادونا 100 سنة للوراء وأنّ غزة صارت مدينة أشباح، وأن بيتي، لم يعد موجودًا، والشوارع والأحياء التي نُحبّها حُولّت لمقابر جماعية، وكل حياتنا انقلبت رأسًا على عقب، ومع ذلك أعد بالدقيقة لليوم الذي أعود بكل أوجاعي إليها".

عَلت نبرة "أسماء" وهي تشرح لنا عن تمسكها في فكرة البقاء قائلةً: "التمسك بهذه المدينة ليس وليد اللحظة، كنت دائمًا أراهن على جمالها وجمال كل شيء فيها، من عادات وناس وحياة(..) والله لو خُيرت بينها وبين أكثر أماكن العالم رفاهية، لن أختار مكانًا للعيش سواها".

"أنتمي إليها في أتعس أحوالها"..

في الشقّ الآخر من القطاع، تشبث نحو 700 ألف مواطن، بفكرة عدم مغادرة منازلهم في الشمال مهما كلّف ذلك من ثمن، ولكلٍ مبرراته في الثبات، في وقتٍ لم تتوقف فيه آلة الحرب الإسرائيلية عن حصد أرواح المئات يوميًا بشتى الوسائل إما قصفًا، أو جوعًا، أو دهسًا بجنازير الدبابات، أو تنكيلًا عند الاعتقال والتحقيق.

فهذا أبو محمد بارود (43 عامًا) فقد عددًا كبيرًا من عائلته في الحرب، يعيش في حالة ترحال متتالية منذ ستة شهور، ومعاناة تزداد قسوةً يومًا بعد آخر، لكنّ قراره بالبقاء في غزة لم يتغير حتى في أحلك ظروف هذه المدينة المنقوعة بالحزن.

يُخبر في اتصالٍ هاتفي مع مراسلتنا عن الظروف الصعبة التي يمرون بها منذ اندلاع الحرب: "نُقصف يوميًا ببراميل متفجرة، نُحاصر دون سابق إنذار، يُمنع عنّا إمدادات الطعام والشراب، نلاحق من مكان لآخر، لقمتنا أصبحت مغموسة بالدم، ومن نجا من الصواريخ، صار مهددًا بالموت جوعًا(..) باختصار نعيش في كابوس ممتد".

ويشير إلى أنّ الاحتلال يُحاول بقوة السلاح وبأساليب التخويف والترهيب؛ لتضييق الخناق على أهالي محافظتي غزة والشمال؛ لإرغامهم على النزوح إلى الجنوب، وحشرهم في دائرة النادمين، لأنهم لم يمتثلوا لأوامره منذ البداية.

لكن وبالرغم من نزوح عدد كبير من عائلات الشمال إلى مناطق الجنوب، إلا أنّه الاحتلال فشل في تمرير مخططه بالتهجير _من وجهة نظر ضيفنا_ فالناس هنا على وعي كامل بما يجري على الأرض، وحتى الذين هُجروا قسرًا إلى الجنوب الآن يعضون أصابعهم ندمًا لأنهم خرجوا من منازلهم.

ويتابع: "الناس هنا يؤكدون رفضهملنكبة ومذلة أخرى تحل بهم، وأن ما عاشه أجدادهم في نكبة 1948 لن يسمحوا بتكراره عليهم، فإما البقاء وإما الموت بشرف وكرامة على أرض غزة التي يحاولون انتزاعها منّا".

بينما وجدت الشابة إسراء معين (23 عامًا) نفسها تنتمي لغزة في أتعس أحوالها، بعدما كانت تعتقد أنه لا شيء يدفعها للبقاء فيها لولا العائلة.

"إسراء" كانت على موعدٍ قريب من زفافها، لكن اندلعت الحرب، ومنذ ذلك الحين تنتظر هذه العروس "فَرج ربنا بانتهاء الكابوس الجماعي لأهل غزة" علّها تجد طريقًا للسعادة مع شريك حياتها.

ما يُثير الاستغراب أنّ ضيفتنا كانت تنظر لغزة كأنها سجن كبير فُرض عليها العيش داخله، ولا مفر منه إلى الأبد، تقول: "كنت دائمة التذمر من الأحوال العامة في القطاع، لكن في هذه الحرب شيء ما تغيّر داخلي، أصبحت أشعر بحبٍ كبير لهذه المدينة التي لا أعرف سواها في العالم، كأنه الثأر الذي ولّده الحزن الكبير داخلنا".

وتنبّه إلى أن عائلتها لم تُفكر بمغادرة الشمال، بالرغم ما حلّ به من ويلات، متابعةً: "كل شيء هنا تغيّر، ملامحنا، أرواحنا، بيوتنا، شوارعنا، جامعاتنا ذاكرتنا، كل شيء صار شاحبًا وأكثر كآبة، لكنه يبعث على الثأر، والصمود في وجه كل مخطط يُريد مسحنا عن الخريطة".

"غزة.. بيت العائلة الكبير"

وفي وصفه لمدينة غزة، يقول الكاتب الفلسطيني محمود جودة في منشورٍ له على صفحته بفيس بوك: "غزة ليست مدينة، إنها بيت العائلة الكبير، فالهدم الذي حصل فيها قد وقع في أرواحنا، كل حجر سقط ترك أثره في العيون والوجوه، لقد تفككنا وانهار الحلم الحي فينا".

ويُشبّه علاقة الغزيين بهذه المدينة الصغيرة بعلاقتهم بأطفالهم، مستطردًا: "لقد نبت فيها البحر وامتداد زرقته والبيوت والمطاعم والشوارع والحدائق والجامعات أمام أعيننا من سُقيا المدامع والعرق يومًا بيوم، جميع من فيها يعرفون تفاصيلها الصغيرة ويشرحون لك الأمر بحب لا مثيل له".

أما الصحفي جهاد أبو شنب، الذي بقي مع زوجته وطفلتهما الوحيدة أيلول في غزة، فقد كتب عن هذا القرار قائلًا: "روحي رخيصة فداءً لغزة، سأبقى فيها حتى الرمق الأخير، ليست بطولة أو فلسفة زائدة، بل ندية وعناد لهذا المحتل الذي يظن أننا سننتهي".