الساعة 00:00 م
الجمعة 03 مايو 2024
22° القدس
21° رام الله
21° الخليل
25° غزة
4.67 جنيه إسترليني
5.26 دينار أردني
0.08 جنيه مصري
4 يورو
3.73 دولار أمريكي
4

الأكثر رواجا Trending

عدنان البرش .. اغتيال طبيب يفضح التعذيب في سجون الاحتلال

أطفال غزة يدفعون ثمن الأسلحة المحرمة

من قصص المحاصرين في محيط الشفاء..

غزة التي غادرناها قسرًا.. أهوال وفظائع تلك الليلة ترويها هديل صالح

حجم الخط
6555cb4067899.jpeg
غزة – آلاء المقيد – وكالة سند للأنباء

منْ يمسح من ذاكرة "هديل" ابنة الـ 20 ربيعًا أهوال ليلةٍ عصيبة، فقدت فيها عامود البيت والدها، والسد والسند شقيقها؟ منْ يهبها معجزةً تُوقِف الزمن عند آخر "لمّة" كانت فيها العائلة كاملة لا ينقصها أحد؟ حسنًا لقد "رضينا بقضاء الله" لكن هل من سبيل يُبرّد نار القلب المحترق بإلقاء نظرةٍ وداعٍ أخيرة على حبيبيها وإكرامهما بدفنة تليق بهما؟

إنّه لقهر كبير أنّ تعيش على مدار نصف عام، أفظع الأحداث المشاعر، وتتنقل في شوارع مدينتك مثقل الخطى؛ بحثًا عن الأمن المفقود متشبثًا بالحياة رغم انعدام مقوماتها، فلا تجد إلا يد عدوّك تبطش بك، تحاصرك أينما ذهبت؛ تحاول فرض عليك الموت بكل الوسائل؛ فتصبح عاجزًا عن فعل أي شيء حتى عن الحديث عن جنون الوجع فيك!

في هذه المادة اتصلت مراسلة "وكالة سند للأنباء" بالشابة هديل محمد صالح، لتحكي عن تفاصيل وفظائع مروّعة فعلها 60 جنديًا إسرائيليًا بعائلتها بعد حصار عمارة سكنية كانت تأويهم في محيط مجمع الشفاء الطبي غرب مدينة غزة، وانتهت فصولها بإعدام والدها وشقيقها أمام أعينهم، وإجبار من تبقى على النزوح إلى الجنوب.

تستهل هديل صالح حديثها بالقول إنّ الاحتلال قصف منزلهم في منطقة تل الهوا غرب غزة منذ بداية الحرب، ما أجبرهم على النزوح قسرًا إلى عدة مناطق داخل المدينة، كان آخرها في منزلٍ قرب دوار حيدر عبد الشافي (محيط الشفاء) وهو النزوح العاشر لهم.

وفي كل نزوحٍ كانت العائلة تترك كل ما لديها من احتياجات وأغراض "نخرج بأرواحنا، بسبب كثافة النيران الإسرائيلية، والمسافات البعيدة التي كنّا نقطعها، والطرق الوعرة التي نسيرها مشيًا على الأقدام بعدما جرفها الاحتلال وأحدث خرابًا هائلًا فيها".

وتُضيف أنّ الظروف والأوضاع الميدانية في محافظتي غزة والشمال كانت تزداد تعقيدًا مع مرور الوقت، حتى أصبحت لا تُطاق؛ في ظل القصف المتواصل الذي طال الحجر والشجر والبشر، عدا عن الحصار المفروض وقطع إمدادات الغذاء والأدوية عنّا وتركنا، لكنّها البلاد التي نُحب ونتمسك بكل شبرٍ فيها.

ليلة حصار الشفاء ومحيطه: ذُعر لا يُنسى

عند الساعة الثانية والنصف من فجر يوم الثامن عشر من آذار/ مارس المنصرم، ودون سابق إنذار وبعد أن هدأت الأمور نسيبًا في مدينة غزة، استيقظت عائلة "صالح" على أصوات أحزمة نارية متتالية قريبة وطيران حربي، وتقدم لآليات الاحتلال في محيط المنطقة، كأنه الحرب قامت من جديد؟

تُحدثنا عن تلك الليلة: "عشنا حالة فزع شديدة، لا نعرف ماذا يجري، حاولنا التواصل مع أقاربنا لمعرفة آخر الأخبار، لكن الإرسال كان ضعيفًا للغاية، لجأنا إلى الراديو أيضًا كان القنوات الإخبارية مشوشة(..) بعد صلاة الفجر عرفنا أننا محاصرون"، في إشارة إلى العدوان الأخير الذي شنّه الاحتلال على مستشفى الشفاء والمناطق المحيطة به.

لم تُحضّر العائلة المكوّنة من 9 أفراد نفسها لمثل كهذا حصار، فالأكل بالكاد متوفر، ومياه الشرب لا تكفي في الوضع الطبيعي لأكثر من يومين، لكن عليهم التكيّف مع الحال الجديد المفروض عليهم.

"عشنا أيامًا صعبة للغاية خلال فترة الحصار" كما تصف "هديل"، فلا حركة ولا ضوء مهما كان خافتًا، وعليهم التحلي بالصمت أو استخدام لغة الإشارة إن أمكنّ المهم ألا يصدر أي صوتٍ منهم؛ خشية أن يتم استهدافهم وتصفيتهم، خاصة بعد أن عَلموا أنّ الجنود يتمركزون على باب منزلهم، والدبابات تُحاصرهم من كل زاوية "حتى فرصة الإخلاء لم يتركوها لنا".

بينما القصف لم يهدأ، والحرائق تشتعل في المنازل المجاورة، كان الأب "محمد" ينظر طوال الوقت بقلقٍ إلى أولاده، يضع يده على قلبّه مئات المرات متسائلا: "كيف سأحميهم من بطش العدو وغدره؟" فلا يجد إلا الدعاء وترديد كلمة يا رب؛ لتُهدأ من روعه وتُطبطب على المرتجفين حوله.

بينما حاولت الأم أنّ تصنع أجواءً طبيعية لأبنائها، كي تُخفف من حدّة الخوف لديهم، إلى أنّ باغتهم الاحتلال باقتحامٍ وحشي في تاريخ 26 آذار تحديدًا عند موعد السحور حيث كانت عقارب الساعة تقترب من الثالثة فجرًا: "فجروا بابي العمارة والطابق الأرضي الذي نسكنه، بقنابل صوتية ومتفجرات، ثم اقتحم أكثر من 60 جنديًا الشقة، بغطاء ناري كثيف على كل مكان وزاوية أمامهم".

في تلك اللحظة كانت عائلة "صالح" وعائلة أخرى (غالبية أفرادها أطفال)، تحتمي داخل غرفة مظلمة بالمنزل، لم يصدروا أي صوت، إلى أنّ اقتحم الجنود الغرفة: صرخوا بأعلى صوت: "نحن مدنيون، ومعنا أطفال" كرروا هذه الجملة أكثر من مرة عليهم.

قام والد "هديل" الذي يُعاني من مرض القلب والسكري، من فراشه ليؤكد أنهم مدنيون، ويتلقى أذى الجنود عن عائلته، لكنهم لم يفسحوا المجال له أن يتفوّه بحرف واحد، فورًا أعدموه على باب الغرفة برصاصة صوبها أحد الجنود على بطنه.

لم تسل قطرة دم واحدة من جسده، فاعتقدت عائلته أنّه في غيبوبة ولم يستشهد، حاولت بناته سحبه إلى الزاوية التي يحتمين بها وأصواتهن المرتجفة تُكرر "مدنيين مدنيين"، تُخبرنا "هديل" أنّه في هذه الأثناء، لاحظت كيف يتفرّس الجنود عيون المحاصرين؛ بحثًا عن أي رجل ليتم تصفيته "كانوا ثلاثة.. بابا، أخوي صلاح (18 عامًا)، وأخوي بلال (28 عامًا)".

بعد إعدام والدها، لمحوا "بلال" فأطلقوا النار عليه رصاصتين واحدة في قدمه والأخرى في بطنه، ثم حشروا "صلاح" في زاوية، أخذ الجنود يتشاورن هل يلقى مصير والده وشقيقه أم لا؟ "تدخل لطف ربنا لحظتها، فتركوه لكنهم جردوه من ملابسه وعذبّوه، وفصلونا عنه، بعد أمرنا نحن النساء لغرفة أخرى لتفتيشنا"، وفق شهادة "هديل".

وتنقل عن شقيقها "صلاح" الذي مكث وقتًا طويلًا أمام جثماني والده وشقيقه، دون أن يتمكن من فعل شيء لإنقاذهما، أنّ أحد الجنود لَمح أن "بلال" لا يزال يتنفس، فأطلق رصاصة على رقبته، أردته شهيدًا.

ظلّ اعتقاد البنات في الغرفة المجاورة أن والدهن وشقيقهن لم يُعدما وأنهما في حالة إغماء نتيجة رصاص مطاطي، إذ حاولن شرح حالة والدهن المرضية للجنود التي تستدعي تدخل الطبيب فورًا، وأنه يجب أن يتناول وجبة السحور، ليتمكن من مواصلة صيامه، لكن ذلك كله لم يلقَ أي استجابة.

خمس دقائق بين الحوار السابق وبين عودة أحد الجنود إلى غرفة النساء مجددًا: "أبوكم مات"، تشرح "هديل" حالتهم حينها: "لم نستوعب الخبر، نحن أصلًا لا زلنا في حالة صدمة مما يجري معنا، كيف بكل سهولة أبوكم مات؟ بكينا بشدة لكنهم هاجمونا وطلبوا منّا عدم إبداء أي ردة فعل(..) تخيلوا الإجرام؟".

ماذا عن مصير "بلال"؟ سألناها فردت بصوتٍ تخنقه حشرجات الدمع: "نادى أحد الجنود على أمي، وقال لها أنا قتلت لك اثنين (زوجك وابنك)، عادت أمي لتُخبرنا بالفاجعة، التي وقعت علينا كالصاعقة أُصبنا بحالة انهيار شديدة، لم نبك كما يجب عليهما، لأنّ أمرًا جديدًا فُرض علينا (عليكم إخلاء المنزل خلال خمس دقائق فقط)".

لم يكتفِ الاحتلال في إجرامه عند إعدام والد "هديل" وشقيقها أمام عائلته، بل منعوهم من وداعهما لآخر مرة، رغم كل محاولات الرجاء المبللة بدموع القهر والعجز، حسنًا ما مصيرهما؟ أين سيتم دفنهما؟ تقول: "سألتهم عن ذلك لكنهم سخروا مني وكأني ألقيت على مسامعهم نكتة(..) كنّا في حالة يُرثي لها، لكنهم تلذذوا في تعذيبنا نفسيًا على أحبابنا".

وتشير إلى أنهم فقدوا الأمل في الإجابة على كل تساؤلاتهم، وصار ضروريًا مغادرة المنزل قبل تفجيره، فطلبوا من الجنود قبل توجههم للجنوب على الأقل أنّ "يرتدي صلاح ملابسه، وأن يبدلن البنات ووالدتهن ملابس الصلاة"، وافقوا على الطلب الأول، بينما اشترطوا أن يظلّوا في غرفة البنات عند غيارهن، فرفضن وقررن الخروج بأثواب الصلاة إلى الجنوب.

بعدما أسقوه المرّ: "إنت صرت زلمة البيت"

الجندي الذي تلذذ في قتل "بلال" ووالده أمام عائلتهما، جاء إلى "صلاح" قبل مغادرة المنزل ليقول له باستهتار: "إنت الآن صرت زلمة البيت"، فكيف سيكون ردة فعل هذا الشاب المقهور الذي انفطر قلبه على أغلى الناس إلى قلبه؟

في إجابتها تحكي لنا "هديل" عن تصرف شقيقها المكلوم: "صرخ في وجهه إنت قتلت أبوي وجاي تقلي إنت هلأ زلمة الدار؟ حرام عليكم(..) غضب الجندي فيما صوّب أربعة آخرين أسلحتهم صوب صلاح ليقتلوه(..) حرفيًا صرنا نترجاهم ليتركوه لنا، فكان لطف الله حاضرًا في هذا الأمر".

وبعد ساعتين من المعاناة والاستجواب، هددوهم في حال لم يسلكوا الطريق المحدد لهم، ستلاحقهم الطائرات والدبابات وقناصة الاحتلال المنتشرة في كل مكان، مؤكدةً أنهم أخرجوهم من المنزل بطريقة همجية.

خرجت عائلة "هديل" من المنزل بقلوب مفطورة وعيون لم تتوقف عن البكاء، تردف: "طلعنا الساعة 5:10 فجرًا، كانت الدنيا ظلام، نسير هائمين في الطرقات المدينة المدمرة وجثث الشهداء ملقاة هنا وهناك، لم نستوعب بعد كيف دخلنا المنزل تسعة أشخاص، وخرجنا منه بسبعة؟".

تُصيب قشعريرةٌ كل جسدها والدمع ينهمر تباعًا على وجنتيها كلما تذكرت أنّ حبيبيها لم يُدفنا بعد وأن يكون مصيرهما، مصير المئات الذين تُركت جثامينهم في الطرقات، وتحت ركام المنازل؛ لأن الاحتلال بغطرسته أراد ذلك، موضحةً أنّ الجنود طلبوا منهم، هويات والدها وشقيقها (البطاقات الشخصية)، بدليل أنهم يقتلون الناس المدنيين دون التأكد من أسمائهم.