البحث عن الأمان إجبارٌ أم خيار؟ هواجس تعصف بقلوبٍ فرقتها الحرب

حجم الخط
أطفال الحرب على غزة
فاتن الحميدي - غزة - وكالة سند للأنباء

البحث عن الأمان إجبار أم خيار؟ في قرارين لا ثالث لهما إلا الموت، لا طعم لهما وأحلاهما مُر، في قطاع غزة -هنا- تكمُن الأضّاد..

 

بين مطرقة الاحتياج وسندان الأمان، فلسطينيون يفضلون نجاة أحبتهم على بقائهم تحت نيران القصف وأزيز الرصاص ومرارة النزوح، بينما يجتاح قلوبهم ألم الاحتياج والسند الذي يهوِّن بلقائهم شتات الحرب والفقد، هذا ما تطرقت له "وكالة سند للأنباء" في حديثها مع ثلة من الواقفين في المنتصف يحتاجون للقاء ونجاة.

 

حربٌ في حرب..

الشابة هداية حسنين، اجتمعت عليها حرب الفقد والنزوح واحتياج الأم في آن، بينما ترى في رجوعها إلى مدينة غزة وتحديداً حي الشيخ رضوان برفقة عائلتها ووالدتها - المسافرة-، هو بمثابة انتهاء الحرب حتى باستمرارها.

 

وبالرجوع إلى البدايات، تقول "حسنين" لمراسلتنا، إن والدتها سافرت قبل اندلاع الحرب بأشهر رفقة حفيدها إلى الداخل المحتل لعلاجه، بيْد أن الطوفان بدأ وأُغلِقت الطرق وتقطعت الأوصال عُنوةً!

 

وتتابع ضيفتنا حديثها: "تأتيني لحظات أحمدُ الله فيها أن أمي ابتسام ليست معنا، رغم احتياجي لها، وأشعر أن فقدها جزئياً كونها حُجِزت في الشق الآخر من البلاد! لكنني أخاف من ماذا لو بقي هذا الفقد جزئياً؟ هل سأحتاج في يوم ما لِلم شمل لألتقي بأمي"؟

٣ هواجس..

 

تمرُ "حسنين" بثلاثة هواجس تُقلِقُ الفكر، فكما بيَّنت لنا أن أولهما: "عودة أمي دون أن تجدنا، وهي التي تدعو دائماً يارب أروِّح وألاقيكم ضايلين"!

 

أما الهاجس الثاني كما ذكرت ضيفتنا أن تُغلق الطرقات وتُوصدُ الأبواب كما حدث أنْ أُغلِق معبرُ رفح البري في يوم وليلة، وفي لحظٍة بقي مَن في شمال القطاع هناك، وبقي مَن في جنوبها هنا، كيف وأن الحرب ذاتها قد اندلعت في لحظة، "وفي يوم وليلة لم أودع أمي لأنني كنتُ في عملي ولم أعلم أن مدة بقائها في الداخل ستطول وهذا ما يعز عليّ بشكل رهيب"!

 

وبصوت متحشرج وعَبْرة خانقة، تنقلنا "حسنين" إلى الهاجس الثالث والذي تخاف فيه أن تفقد والدتها، مبيِّنةً أخاف أن تخرج روحها حزناً وكمداً فأمي شخص لا يستطيع البكاء بطبعها، لكن أن تبكي أمي بنهنهة يخيفني، أخاف عليها واقعاً وليس مجازاً".

 

ولانقطاع الإنترنت والإرسال حديثٌ آخر يُضني القلب، ويقلق الفكر والحواس، فتلفت ضيفتنا أن فترة انقطاع الإنترنت والإرسال أثناء نزوحها المتكرر، تسبب بخوف لأمها ظناً منها أن أبنائها وعائلتها شهداء".

 

وتتابع "حسنين"، يعزُّ عليَّ أن أفقدَ أمي، كما فقدتُ أخي شريف شهيداً، بينما أحتاج وجودها إلى جانبنا لكننا نقول لا بأس فهي ربما في مأمنٍ الآن، لكنني بين أضّادات قاتلة، ورغم ذلك متيقنةٌ أنني سأعود لبيتي وأجتمع مع أمي وعائلتي وستنتهي الحرب وستزول غمامة الأسى".

 

لقد أُجبِرنا..

 

ولا يختلف حال الشابة آية الزعيم عن ضيفتنا "هداية"، وهي التي اضطُرت للنزوح من مدينة غزة مع عائلتها، تاركةً شريك الحياة وشقيق الروح خطيبها مهدي أبو ندى في شمال القطاع.

 

تقول "الزعيم" لـ"وكالة سند للأنباء"، "نزحت وعائلتي ستة مرات إلى أن حوصرنا في مخيم المغازي نهاراً كاملاً وذلك في النزوح ما قبل الأخير".

 

وتزيد بالقول: "اعتقلنا جيش الاحتلال وحققوا معنا وكبلوا أبي وإخوتي ووضعونا في حفرة وسط الدبابات، وبعد أن أخرجونا حرقوا المكان الذي نزحنا فيه أمام أعيننا بجميع متاعنا، ودمروا سيارتنا".

 

ومن هنا بدأت المحنة تشتد على ضيفتنا التي أُجبرت على ترك قطاع غزة والسفر إلى جمهورية مصر العربية، وعدم تمكنها من البقاء مع خطيبها بدءاً من فصل الشمال عن الجنوب، حتى سفرها إلى مصر.

 

"ما كان بدي أطلع من غزة أبداً ومش متخيلة إني أطلع وأترك خطيبي في الحرب باعتبار أنه زوجي و شريك حياتي وفرحتي" - كما ذكرت آية.

 

وتضيف " لا أنسى تلك المكالمة التي بدأت على مضض وانتهت بالدموع بين أبي وخطيبي حول سفري مع العائلة، فما كان منه إلا أن وافق على سفري مع عائلتي لسبب واحد هو أنني سأكون بأمان خارج غزة".

 

"أحلاهما مُر"..

 

"ياريت كان عن جد في مجال نختار، ومثل ما يقولوا أحلاهما مُر، طلعت وأنا مكتوب كتابي وحاجزة صالة فرحي ومتبقي لزفافي شهر، لكنني والله لو خُيِّرتُ لأختارُ غزة بنارها وحربها ورمادها"، وفقاً لقول "الزعيم".

 

وتُعبِّر "آية" عن حالها "أنا عايشة في رعب، التواصل سيء بسبب سوء الإرسال، أخاف أن أتلقى خبراً لا أقوى على تحمله، أنتظر لحظة الاتصل التي تنقضي بالدموع، غير أنني من القلق والتوتر انعكس ذلك على صحتي إذ بدأت بتناول العديد من العلاجات، فالخوف هنا سيد الموقف، غُربة وفقد"..

 

ويكمل القصة خطيبها مهدي أبو ندى سكان حي الزعتر شمال قطاع غزة قائلاً: "أنا مُطمَئن أنها في مأمَن عن الحرب، لكنني والله ما إن أراسلها حتى أقول "ارجعي على غزة فقد هدَّنا الشوق، لكنني سرعان ما أتظاهر بالمزاح، إلا أنها حقيقة وأنا بحاجة لزوجتي جانبي كطفل صغير.."

 

ويتابع آسفاً:" كل شيء من بداية الحرب بالإجبار ما في أي اختيار، تركنا بيتنا بالإجبار، وخسرتُ عملي بالإجبار، وفصلوا بيننا بالإجبار ومنعوا عنّا أحبتنا بالإجبار، ولم يكن أمامي إلا أن أوافق على سفرها رغم تعلقنا إلا لتبقى بأمانٍ وتنجو".

 

ويتساءل الخاطبان، هل ستفصلنا المسافات ونبقى دون لقاء؟ هل ستعود "آية" إلى غزة؟ متى سنستقر كعائلة وأسرة، متى سيُلم الشمل تقرُّ العين برُؤية مَن تُحب؟ وهل سيُجمع الشتيتان بعد أن ظنّا كل الظن أن لا تلاقيا؟