معجزات غزة التي لا تنتهي، ولكنها ساعات الفرح التي سرعان ما تنقضي، مجازر تتلوها المجازر تقتل كل حلم جميل، وتحرم الرضع من حنان والديهم دون أي رحمة أو شفقة بصواريخ لا تعرف سوى الموت والإبادة.
فبعد 14 عاماً من الانتظار، ولد الطفل أسامة محمد القريناوي بتاريخ 11 ديسمبر/ كانون أول 2023، وسط القصف والدمار بمستشفى العودة بمدينة النصيرات وسط القطاع، بعد العديد من محاولات الزراعة التي قام بها والديه.
لكن هذه الفرحة باتت منقوصة عقب استشهاد والده وجدته وعمه بقصف إسرائيلي غادر لمنزلهم فوق رؤوسهم بعد ولادته بأسبوعين فقط، لم يره والده خلالهما سوى ثلاث مرات مع والدته التي نزحت به خوفاً عليه إلى مدينة النصيرات.
كل شيء بات ذكرى..
تقول خالة الطفل "أسامة" السيدة هناء القريناوي، إن الشهيد محمد القريناوي كان يحب ابنه أسامة حباً جماً، فاشترى له جميع المقاسات من الحفاظات وبعض الملابس، والعديد من الألعاب وهو لم يبلغ من العمر سوى أسبوعين ليلهو بها عندما يكبر، وكأنه يخبر بأنه يريد أن يبقى شيء لولده كذكرى.
وتضيف هناء في حديثها لـ"وكالة سند للأنباء"، كان والده يحب الأطفال كثيراً ويعطف عليهم، فقد كان بجانب عمله في جهاز الشرطة الفلسطينية، يتطوع لتحفيظ الأطفال القرآن الكريم في المسجد وكثيراً ما يحفز الطلاب بالهدايا والرحل الترفيهية ووجبات الطعام على حسابه الشخصي.
وتتابع: "كانت أمنية محمد وزوجته بأن يقيما احتفالاً بقدوم مولودهما، ولكن ظروف الحرب كانت قاسية ومنعت كل شيء خصوصاً عقب استشهاد شقيقها، لكنه حاول شراء بعض الحلوى المتوفرة في السوق في حينها لإدخال شيء من الفرح على قلب عائلته ووالدته على وجه الخصوص التي فرحت كثيراً بقدومه".
ألم لا ينتهي..
"لم تنتهي القصة بعد"، تكمل "ضيفة سند" حديثها، فبعد حوالي سبعة أشهر ارتقت أماني زوجة الشهيد محمد، بقصف إسرائيلي غاشم على مدرسة خديجة بمدينة دير البلح وسط القطاع، والتي كانت تأوي مئات المصابين، حينما كانت تمارس عملها في التسجيل لكفالات الأطفال الأيتام في الحرب.
وعن تفاصيل الأيام الأخيرة لشقيقتها الشهيدة، تحدثنا "هناء": نزحنا إلى مدينة دير البلح قسراً عقب الاجتياح البري لمخيم البريج، ليستقر بنا الحال في مدراس الصلاح، وكانت شقيقتي تخرج صباح كل يوم لممارسة عملها في مدرسة "خديجة" التابعة أيضاً للصلاح وتقع بجانبها، ولولا قدر الله لا ستشهد أيضاً طفلها أسامة التي كانت دائماً تصطحبه معها أثناء العمل، لكن في ذلك اليوم حدثت شقيقتها بأنه ستتركه معها ثم تعود له عقب انتهاء العمل".
وتستطرد "وكأن شقيقتي هي الأخرى، كانت تعلم بأنها سترحل وتتركه كوالده، ففي يوم من الأيام أرسلتني لاستلام الكفالة الخاصة به وقد كان الجو شديد الحرارة، وعدت منهكة للمدرسة ووجدتها جالسة ولم يكن لديها عمل في ذلك اليوم، مازحتني وقالت أريدك أن تتعودي على أن تستلمي له الكفالة كل شهر، فقد يأتي يوم لا أستطيع إحضارها له".
وتلفت، إلى أن شقيقتها الشهيدة أماني كانت كثيراً ما تحاور طفلها الرضيع بلغة الشاب الكبير، وكأنها تستعد لفراقه حتى أنه في يوم من الأيام قالت له "ياماما يمكن مش راح نكمل مع بعض دير بالك على حالك".
محبوب الجميع..
"ولعل الصفات الحميدة، وتكريس حياتهما لخدمة المجتمع وخاصة كفالات الأيتام التي كانت تقوم بها الأم الشهيدة أماني، تركت محبة عظيمة في نفوس جميع من عرفها فقد كان كل من يأتي ليواسينا باستشهادها يحدثنا عن لهفتها لتسجيل الأيتام للكفالات والتواصل هي بشخصها مع الأمهات، فيما يلاحظ أيضاً الحب الكبير لطفلها من جميع الأقارب"، تقول الخالة هناء.
وتضيف :"بالنسبة لنا نعتبر هذا الطفل إرث من شقيقتي لنا، سنربيه كما كانت تريد على حفظ كتاب الله ومحافظاً على الصلاة، وهو الذي كانت دائماً تدعو له في مواعظها في المساجد".
17 ألف طفل يتيم
وخلّفت حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين أول من العام الماضي 50691 شهيداً ومفقوداً، منهم 16673 شهيداً من الأطفال، فيما يعيش 17 ألف طفل بدون والديهم أو بدون أحدهم، وفق بيانات المكتب الإعلامي الحكومي في القطاع.
وأضاف الإعلام الحكومي في تصريح له في 31 أغسطس/آب المنصرم وصل "وكالة سند للأنباء" نسخة عنه، أن 115 طفلاً رضيعاً ولدوا واستشهدوا في حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية على قطاع غزة.