الساعة 00:00 م
الثلاثاء 20 مايو 2025
22° القدس
21° رام الله
21° الخليل
25° غزة
4.72 جنيه إسترليني
4.98 دينار أردني
0.07 جنيه مصري
3.97 يورو
3.53 دولار أمريكي
4

الأكثر رواجا Trending

حين ينام العالم.. ويستيقظ الرعب في غزة

استهداف "الأوروبي" ضاعف مأساتهم.. الاحتلال يحكم بإعدام 11 ألف مريض سرطان في غزة

بالفيديو مكتبة الجامعة الإسلامية بغزة.. حكايا وذكريات نابضة قطع الاحتلال شريان حروفها

حجم الخط
مكتبة الجامعة الإسلامية بغزة والاستهداف الإسرائيلي المتواصل
غزة_ هداية عصمت حسنين_ وكالة سند للأنباء

لم تكن جدرانا فحسب، ولن تكون يوما، كيف لا وهي ليست مجرد حاضنة للعلم، والدين، والثقافة، والمعرفة، والأدب، والشعر، فصدق المثل الذي أخبرنا أنها "مستشفى النفوس"، ولله در من آمن أنها "المعمل الذي تصنع فيه العقول، وتصاغ الأذواق وكل كنوز العالم لا تساوي المكتبة"، وأما ذاك القول الذي اختصر الحكاية بجملة "كل ما فاتك في الحياة تجده في المكتبة" كفيلٌ أن يُفهِمك لماذا يتعمد الاحتلال الإسرائيلي استهداف كل ما يمت للكتاب والكلمة والمعرفة وبصلة في قطاع غزة، خلال حربه المتواصلة منذ عام.

ولأن الاستهداف الإسرائيلي في الإبادة الجماعية بقطاع غزة، لا يختص بزقاق، أو مكان معين، كما لم يرحم الإنسان فيه بالبديهية، وإيمانا بأنه من الحق أن يأخذ الحديث عن "الفقد المختلف" متسعا لتفاصيل ترويها ألسنة الشاهدين على مشاهد مفقودة لم ينسَها روادها، فكانت هذه المساحة التي التقت فيها "وكالة سند للأنباء" مع عاملَين بأحد أعرق أروقة الجامعة الإسلامية بقطاع غزة، حيثُ مكتبتها المركزية، التي تضررت بفعل الاستهداف الإسرائيلي الهمجي منذ بداية هذه الحرب.

عن أعمار وسنوات شهد فيها "ضيفا سند" طلعَ بذورِ المكتبة، ونموها شيئا فشيئا، وعن حصاد ثمار سنوات من الجد لتكون المكتبة المركزية بتلك العراقة التي حققتها، وماذا عن ذكريات أروقتها، قاعاتها، ممتلكاتها، تفاصيلها البسيطة، وأشياء أكثر.. تفاصيل رُويت برحلة شعورية، لكَ أن تشعر بعبق تفاصيلها، وبالرغم من أن آلة الاحتلال الإسرائيلي كان لها رأي آخر فأرادت طمس كل ما سبق، إلا أن الذكريات لن تُمحَى، ولن تفلح هذه الهمجية أن تبيدها وتنهيها، فكما تبني المكتبة المرء، فما الذي سيعيقها على أن تبني نفسها ولو بعد حين؟! والوقت سيشهد..


بذرة تتشكل وبصمات عديدة..

"قبل قرابة 4 عقود، ومن غرفة واحدة لا تزيد محتوياتها عن مئات الكتب والمراجع، كانت نواة مكتبة الجامعة الإسلامية بغزة، التي تحولت بعد هذه السنين إلى ذلك المبنى الشاهق الذي يتألف من 5 طوابق، ليضم في جنباته عشرات قاعات الكتب العربية والأجنبية، والتخريج الحديثية والتاريخية، وتحتضن قرابة 260 ألف مادة علمية ما بين كتاب ورقي، ودورية، ورسالة علمية، وملف إلكتروني".

بمثل هذه الكلمات السابقة يستهل ضيف "وكالة سند للأنباء"، الذي سبق وعمل سكرتير عميد المكتبات بالمكتبة المركزية بالجامعة الإسلامية في غزة، هاني الصوص، حديثه عن مسيرة انطلاق المكتبة، التي نَشأت عام 1978، مع انطلاق الجامعة.

وعن رحلة 24 عاما قضاها "الصوص" بالعمل متدرجا في مختلف أقسام المكتبة، يقول: "كانت هذه السنوات كافية لأن تترك في داخلي بصمات عديدة، فقد عاصرت أغلب عمدائها، ومدرائها، وموظفيها، وتمر في ذاكرتي ممراتها قاعاتها، ومكاتبها، وجلوس الطلبة على الأرض بين الأرفف في وقت الازدحام".

وفي سؤالنا ماذا علمتك المكتبة خلال عملك فيها قرابة ربع قرن؟ يجيب "الصوص": "علمتني الكثير، علمتني كيف تخدم صاحب الحاجة دون كلل، علمتني الصبر وتحمل ضغط العمل، وكيف تنظم وقتك، وتعرفت على العديد من المؤلفين والباحثين الذين أصبحوا روادا للمكتبة، كما تعلمت أن المكتبة هي فعلاً قلب الجامعة النابض، وأن الكتاب هو الأنيس الحقيقي لطالب العلم".

ذكريات لا تُنسى..

ويتابع "الصوص" بتنهيدة فيها الحنين الذي تكاد تسمع في طياته دقات القلب، وابتهاج الروح: "أذكر كيف كانت المكتبة تستقبل العشرات بل المئات من الزيارات والرحلات المدرسية للتعرف على المكتبة، وكيف كانت المكتبة مهبطاً لطلبة العلم والباحثين من جميع الجامعات".

ولا تغفل عن ذاكرة ضيفنا مشاهد يكون فيها العمل بالمكتبة كخلية نحل لا تهدأ، فيروي لـ "سند" كيف أن المكتبة حتى في الفترة المسائية لطلبة الدراسات العليا لم يكن يهدأ نبضها، مردفا "ولا يغيب عن خاطري فترة عمل معارض الكتب، التي كانت تجلبها المكتبة من المعارض الدولية".

ولم يستطع "الصوص" أن يُلجِم شوقه للساعة الـ 8 صباحا، حيث بداية افتتاح الدوام بالمكتبة، ومراجعة البريد الإلكتروني والرد على رسائل المستفيدين من القراء على البريد، وصفحة "فيسبوك" المكتبة، ومن ثم استقبال الطلبة والمراجعين بالمكان، وكذلك الالتقاء بزملاء العمل بالمكتبة وأحاديث قهوتهم الصباحية حول بعض القراءات، والكتابات المعرفية بينما تحيطهم الكتب العلمية والثقافية من زاوية 360 درجة في ظل تواجدهم بالمكتبة العريقة.

"إن لنا في كل صفحة كتاب ذكريات، ومع كل دورية لنا حكايات، وبكل رسالة علمية تأملات، لقد أخذت المكتبة من أعمارنا الكثير لكنني لست نادما على كل خدمة قدمتها وإخواني الموظفين في سبيل رفعة المكتبة والجامعة" هكذا يُجمِل "الصوص" شريط حياة عايشها بالعمل في المكتبة.

ولا يختلف الحال كثيرا، بالنسبة لمحمد أبو ستة، الذي يعمل في المكتبة المركزية بالجامعة الإسلامية بغزة منذ 27 عاما، فيعبِّر عن ارتباطه بالمكتبة وذكرياته فيها: "المكتبة هي بيتي الثاني، كنت أشتاق لكل صباح حتى ألتقي بالطلبة، وأقدم لهم خدمة بجميع المجالات، وأن أتنقل بين الأرفف المختلفة، وأنتقي الكتب للطلبة من المكتبة، وأرشدهم لأهم العناوين فيها".

وتستدعي ذاكرة "أبو ستة" ذكريات جميلة يفتقدها الآن، ويحدث عنها "وكالة سند للأنباء": "من الأشياء البديعة التي لا تفارق ذاكرتي بالمكتبة تتمثل بأوقات قدوم الرحلات المدرسية، وأنا أتحدث مع الطلبة عن الكتب، وأجول بهم في أروقة المكتبة، وأقدم لهم المسابقات... وما أجمل أوقات المتعة مع طلبة الثانوية العامة، وما أبهى النقاش معهم، وتقديم الجوائز لهم من مكتبتنا"، ولسان حال الشوق ينطق يا ليتها تعود من أيام.

قهر وغصة وخسائر لا تعوض..

وعن شعور يستحضره القهر بما آلت إليه المكتبة بسبب الحرب المتواصلة على قطاع غزة، فيسرد لنا "الصوص" شيئا من ذلك: "في الحقيقة لقد أصابتني غصة أول ما علمت أن المكتبة تعرضت لأضرار بليغة بسبب العدوان، وقصف المكتبة، لكن ما آلمني أكثر وطبع في فؤادي ألما هو عندما علمت أن مئات الكتب فيها تعرضت للحرق قسرا، حيثُ قرأتُ لأحد الباحثين الذين زاروا المكتبة بعد الاجتياح الإسرائيلي الأول لمنطقة الجامعة في مدينة غزة أن النازحين اضطروا لإشعال النار بالكتب لعدم توفر الغاز، ووسائل الطهي... حُرقت المراجع، وأمهات الكتب والقواميس، ثم أكمل الاحتلال جريمته بحرق طوابق المكتبة عبر القصف المتعمد".

وفي إطار حديثنا عن الدمار والخسائر التي لحقت بالمكتبة، يؤكد "الصوص" أن "الخسارة العلمية تفوق الخسارة المادية، فالخسارة المادية يمكن أن تعوض، لكن الخسارة العلمية والتراث الثقافي مستحيل تعويضه، خاصة أن المكتبة كانت تحتوي على أرشيف صحفي لبعض الصحف والجرائد والمجلات منذ عام 1970، والتي تمثل تأريخا وتراثا يعد من الأكبر في قطاع غزة إن لم يكن في فلسطين قاطبة، فالمكتبة فيها من الرسائل العلمية والتي عمرها قرابة 50 سنة، وفيها من أمهات الكتب والمراجع، وسلسلات الكتب التي يندر وجودها في المكتبات الحديثة".

ويتفق معه ضيفنا "أبو ستة"، ويزيد قائلا: "بالنسبة للدمار بالمكتبة، فقد دُمّرت غالبية الطوابق الخمسة، بما فيها من آثار ومراجع وأرشيف، مئات آلاف الأوعية العلمية دُمِّرت، وكتبٌ قيمتها المادية بملايين الدولارات اختفى أثرها، وليست العبرة بالقيمة المادية بقدر قيمتها المعرفية هنا، خاصة لو كان يصعب تحصيل بعض المراجع من جديد".

ويستطرد "أبو ستة": "عمر الأرشيف في المكتبة قد يزيد على ألف عام، بل ما فيه من مراجع، ربما ترجع لما يزيد على ألف وستمائة عام، وكانت متاحة للجميع لطلبة الدكتوراة، والماجستير والطلبة المنتسبين إلى جامعات من خارج الوطن، إذ كنتُ أبعث صورا لصفحات من كتب عندنا لطلبة في الخارج من بلاد المغرب وغيرها؛ لتعذر وجودها في غير مكتبتنا".

وليست مكتبة الجامعة الإسلامية وحدها الشاهدة على استهداف الاحتلال للمشهد الثقافي المعرفي بالقطاع، فكانت وزارة الثقافة الفلسطينية قد صرّحت تزامنا مع اليوم العالمي للتراث بتضرر 32 مؤسسة ثقافية بقطاع غزة تضررت بشكل جزئي أو كامل، وهدم قرابة 195 مبنى تاريخيا يقع أغلبها في مدينة غزة، منها ما يستخدم كمراكز ثقافية ومؤسسات مجتمعية، بجانب تضرر تسعة مواقع تراثية بسبب الحرب المتواصلة على القطاع.

وفي الإطار ذاته، حذرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو" في أكثر من مرة، من الخطر الذي يتهدد التراث الثقافي في غزة؛ جراء الحرب الشرسة، مطالبة بـ "توفير الظروف كافة" لحماية التراث الثقافي المهدد بالانقراض؛ بسبب الاحتلال الإسرائيلي.

 

الاحتلال وطمس الأثر العلمي

ولا يعد استهداف الاحتلال الإسرائيلي لمنابع المعرفة في قطاع غزة اعتباطياً بلا هدف ولا داعٍ، بل هو استراتيجية ممنهجة، وفقا لما يراه ضيفنا "الصوص"، ويتابع خلال حديثه: "أتمنى أن يفهم الجميع أن استهداف الاحتلال للمكتبات العامة والخاصة هو ديدن الاحتلال في سياسة التجهيل وطمس الأثر العلمي الذي امتد لعشرات السنين، وتدمير الفكر العلمي الخاص بالعديد من العلماء والمؤلفين الذين استشهد الكثير منهم في هذه الحرب، فالاحتلال لا يريد أن يبقي أثرا ولا أرشيفا، ولا يريد أن يرى الإنسان الفلسطيني المتعلم المتطور والمتقدم في كل المجالات".

ويؤمن ضيفنا أن خسائر المرافق العلمية والمعرفية الثقافية هذه لا تقل أهمية عن خسارة الأرواح بالقطاع، كيف لا وهي التي تبني الإنسان أساسا، ويُكمِل بالقول: "إن مصيبتنا الكبرى ليست في قصف البيوت والطرق والمستشفيات فحسب، بل المصيبة الأكبر هي في حرق المكتبات والتراث العلمي الذي يخرِّج العلماء والأطباء والمهندسين وحسبنا الله ونعم الوكيل".

وبالرغم من كل هذه "الخسارة التي لا تقدر بثمن"، وهذا "الفقدان المختلف"، الذي تتوجع له روح المعرفة وأصالة الثقافة، يختم "الصوص" حديثه بشيء من اليقين وسط ظلامية المشهد: "أنّى للاحتلال أن يتمكّن منّا، ولن يقتل المعرفة وحب المكتبة فينا، ونحن الذين كلما وقعنا نهضنا بقوة وعزيمة أكبر أتمنى أن تنتهي الحرب، ونعود للعمل في المكتبة لنبنيها من جديد، وأسأل الله أن يرحم شهداءنا وشهداء المكتبة، إذ قدّمت المكتبة اثنين من موظفيها شهداء خلال عام من الحرب المتواصلة حتى الآن".

الجامعة الإسلامية بغزة.. استهدافات إسرائيلية متعاقبة

وفي الـ 11 من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي 2023، في اليوم الخامس من العدوان المتواصل على قطاع غزة، شنت طائرات الاحتلال الحربية موجة عنيفة من القصف الجوي غير المسبوق على المقر الرئيسي للجامعة الإسلامية غرب مدينة غزة، مما أسفر عن تدمير مبانٍ فيها وتضررها بشكل كبير.

وطال القصف مبنى الإدارة والمكتبة المركزية ومبنى المختبرات ومباني القدس وطيبة واللحيدان الدراسية، ولاحقا عرض جيش الاحتلال تسجيلا مصورا للغارات العنيفة على الجامعة، وقد شكل هذا التدمير غير المسبوق محطة جديدة في تاريخ مواجهات الجامعة الإسلامية مع الاحتلال، منذ انطلاقتها الأولى وحتى اليوم.

وفي ديسمبر/ كانون الأول 2008، خلال العدوان الإسرائيلي، قصفت الطائرات الحربية الإسرائيلية مبنى المختبرات المركزي في الجامعة الإسلامية، وسوته بالأرض، وألحقت أضرار فادحة بعدد من مباني الجامعة.

وسبق أن شن الاحتلال الإسرائيلي حملة تحريض جديدة ضد الجامعة الإسلامية، في عام 2012، وذلك بعد قرار منظمة الامم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو" منحها مقعدا فيها، متهما على لسان خارجيته الجامعة، و"قسم الهندسة الكيميائية" تحديدا بدعم الجناح العسكري لحماس، وهو ما رد عليه رئيس الجامعة آنذاك، الدكتور كمالين شعت، بأن الجامعة لا يوجد فيها من الأساس قسم للهندسة الكيميائية، ونفى  ما سماه بـ "الافتراءات الجاهزة".

وبعدها بعامين، أي في 2014م، خلال الحرب الإسرائيلية الثالثة على قطاع غزة، قصفت الاحتلال من جديد الجامعة الإسلامية، مستهدفا مبنى الإدارة الذي تعرض لتدمير جزئي، بالإضافة لتعرض العديد من مبانيها لأضرار فادحة نتيجة استخدام الاحتلال قنابل ثقيلة من طائرات (F16) في القصف الهجمي.