تزايدت في الآونة الأخيرة، الدعاوى القضائية المرفوعة ضد جنود الاحتلال حول العالم، والمتهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية خلال العدوان الدموي الذي تشنه "إسرائيل" على قطاع غزة للشهر الـ 16 على التوالي.
فالملاحقة القانونية والخشية من اعتقال ضباط وجنود إسرائيليين خلال فترة سفرهم إلى خارج البلاد باتت شبحًا يُطارد "إسرائيل" بكل مستوياتها، بعد أنّ أخذت مؤسسات حقوقية أبرزها مؤسسة "هند رجب" (مقرها بروكسل) على عاتقها الانتصار لمظلومية الشعب الفلسطيني عبر تعقبّ ورصد تحركات الجنود، وسفرهم للخارج وتقديم شكاوى ضدهم بالدول التي يزورونها.
ويصف رئيس معهد فلسطين-البرازيل (إيبراسبال) أحمد شحادة، الجهود الحقوقية المبذولة حول العالم، وفي البرازيل على وجه الخصوص، لملاحقة جنود الاحتلال الإسرائيلي، بأنها "تطور قانوني مهم" يُمكن البناء عليه.
ويشير شحادة في حوارٍ خاص مع "وكالة سند للأنباء" إلى أنّ ملاحقة مرتكبي جرائم حرب في غزة، تواجه تحديات وضغوطًا سياسية وتهديدات مباشرة تلقاها القائمون على الحملة في محاولة لثنيهم عن مواصلة عملهم في تحقيق العدالة للأبرياء.
واستنادًا لمعطيات نشرتها صحيفة هآرتس الإسرائيلية أمس الجمعة، فإنّ مؤسسة "هند رجب"، أرسلت حتى الآن أسماء ألف جندي إسرائيلي إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي؛ مشيرةً إلى أنّ هؤلاء تركوا -طوال مشاركاتهم في الحرب-أدلة واضحة لما قاموا به (انتهاكات وجرائم حرب) عبر نشر العديد منهم مقاطع فيديو وصورا لهم على الإنترنت.
قبلها بأيام رصدت هيئة البث الإسرائيلية، ارتفاعا في محاولات ملاحقة جنود إسرائيليين قضائيا في الخارج، مشيرة إلى تقديم نحو 50 شكوى ضد جنود احتياط في الخارج، جرى فتح 10 تحقيقات ضمن تلك الشكاوى في الدول المعنية دون تسجيل أي اعتقالات.
ولم تحدد هيئة البث أسماء الدول المعنية، لكن صحيفة هآرتس أفادت بأن الدول هي جنوب أفريقيا وسريلانكا وبلجيكا وفرنسا والبرازيل.
هذا دفع قيادة رئاسة هيئة الأركان بالجيش الإسرائيلي لإصدار تعليمات دخلت حيز التنفيذ بشكل فوري بإخفاء هويات الجنود والضباط المشاركين في الحرب على غزة، وكذلك فرض قيود على السفر للخارج، وحظر نشر الصور والفيديوهات وأسماء العسكريين والمضامين التي قد تستخدم كأدلة في الدعاوى بالمحافل الدولية.
ملابسات فرار الجندي الملاحق في البرازيل؟
هروب أحد جنود جيش الاحتلال من البرازيل بعد صدور أمر قضائي باعتقاله أثناء فترة قضائه إجازة مع عدد من أصدقائه هناك، كان من أبرز الأحداث التي أثارت ضجة على وسائل الإعلام الإسرائيلية خلال الأيام الماضية، وتساؤلات عن ملابسات فراره؟
يقول أحمد شحادة، إنّ الشكوى القضائية التي رفعتها "مؤسسة رجب" ضد أحد الجنود الإسرائيليين في ولاية باهيا البرازيلية شهدت تطورات مثيرة، حيث أصدرت محكمة فيدرالية قرارًا بالتحقيق مع الجندي المتهم بارتكاب جرائم حرب، لكن القرار لم يتضمن حجز جواز سفره أو منعه من مغادرة البلاد.
ويلفت إلى أنّ القانون البرازيلي ينص على إحالة القضايا المتعلقة بمواطنين غير برازيليين وغير مقيمين إلى القضاء الفيدرالي، وبناءً على ذلك، تم تحويل القضية إلى العاصمة برازيليا.
وهناك قررت القاضية المناوبة، التي تعاملت مع قضية الجندي (21 عامًا) بسبب عطلة القاضية الأصلية، فقط فتح تحقيق دون حجز جواز السفر أو إصدار مذكرة اعتقال، وهو ما اعتبره نقطة ضعف في الإجراء.
وتحدث شحادة، عن وجود تدخلات وضغوط من اللوبي الصهيوني وبعض الأطراف المتغلغلة في المؤسسات البرازيلية، بما في ذلك الشرطة الفيدرالية، مما سمح للجندي بمغادرة البرازيل إلى الأرجنتين عبر مطار مدينة سلفادور بمساعدة السفارة الإسرائيلية والشرطة الفيدرالية.
وتدخلت السفارة الإسرائيلية في البرازيل فور صدور قرار التحقيق مع الجندي، حيث نسّقت مع عناصر يُعتقد أنهم تابعون للموساد الإسرائيلي؛ لتأمين مغادرته إلى الأرجنتين، التي تُعتبر بيئة داعمة للاحتلال في ظل حكومة خافيير ميلاي الحالية، وفق ضيفنا.
ويردف شحادة، أن الشرطة الفيدرالية استدعت المتهم للتحقيق قبل مغادرته، لكنها اكتفت بطرح أسئلة سطحية دون التطرق إلى التهم الموجهة إليه بارتكاب جرائم حرب، معتبرًا ذلك يُعدّ التفافًا على القرار القضائي، مما مكّن الجندي من الفرار.
وكشف عن تعرض المحامية البرازيلية مايرا بينهيرو، التي تقود جهود المساءلة، لتهديدات خطيرة وصريحة بقتل ابنتها أسوةً بأطفال غزة ونشر معلومات شخصية عنها عبر منصات التواصل الاجتماعي، كما تعرضت لتحريض علني من إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس البرازيلي السابق.
ويشير شحادة، إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي تواجه فيها المحامية تهديدات، وهو ما يعكس المخاطر التي تحيط بالعاملين في هذا المجال، مؤكدًا أن القاضية التي تعاملت مع قضية الجندي تعرضت أيضًا لضغوط وتهديدات مشابهة.
لكن القضية رغم تعقيداتها لم تغلق بعد وقد وضعها القضاء الفيدرالي تحت السرية _وفق شحادة_، وما زال هناك إصرار على متابعتها والحصول على إجابات من الشرطة البرازيلية حول كيفية السماح للجندي بمغادرة البلاد رغم صدور أمر باعتقاله، ومحاسبة الجهات التي ساهمت بتهريبه.
ويؤكد وجود ضغوط سياسية مكثفة يقودها نواب يناصرون القضية الفلسطينية بالتعاون مع معهد "إيبراسبال"، وبالتواصل مع وزارة العدل البرازيلية ومؤسسات أخرى؛ لحثها على دعم الشكوى المقدمة ضد الجندي المتهم بارتكاب جرائم حرب.
تحديات وصعوبات!
ويوضح أحمد شحادة، أنّ الجهود القانونية تعتمد بشكل كبير على الدعم المادي، الذي يكاد يكون منعدمًا في الوقت الحالي، منوهًا إلى أن المحامين الذين يتولون مثل هذه القضايا يطالبون بمبالغ مالية كبيرة لا تتوفر دائمًا، مما يشكل عائقًا أمام استمرار العمل القانوني.
ويؤكد أن المؤسسة تعمل حاليًا على ملاحقة مجرمين آخرين، ولكن نقص التمويل يظل التحدي الأكبر، داعيًا المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية إلى تقديم الدعم المالي واللوجستي لضمان استمرار الجهود القانونية ومواجهة محاولات إسكات المحامين والنشطاء.
في سياق متصل؛ يرى شحادة أن الجهود القانونية لملاحقة جنود الاحتلال المتهمين بارتكاب جرائم حرب تركت تأثيرًا كبيرًا، ليس فقط على مستوى الفرد المستهدف، بل على المؤسسة العسكرية الإسرائيلية بأكملها.
ويوضح أن أحد الجنود المتهمين، والذي تم رفع دعوى قضائية ضده في البرازيل، أصبح يخشى السفر إلى دول أخرى، حتى تلك التي كان يعتبرها آمنة، خوفًا من الملاحقة القانونية.
ويقول: "هذا الجندي وغيره يعلمون أنهم مجرمون، وتأثير هذه القضايا عليهم كبير جدًا، حيث يعيشون في حالة رعب وخوف دائم".
ويشير شحادة إلى أن البرازيل كانت أول دولة تتجاوب مع دعوى قضائية ضد جنود الاحتلال، عبر مؤسسة "هند رجب" التي رفعت عدة قضايا مماثلة.
ويعتقد أن الخطوة القضائية البرازيلية ستشكل دافعًا قويًا لدول أخرى لاتخاذ إجراءات قانونية مشابهة، خاصة بعد أن أصبحت هذه السابقة مصدر إلهام لدول مثل تشيلي، حيث تم رفع قضية جديدة ضد أحد الجنود الإسرائيليين المتواجد هناك.
ويشدد أن هذه المبادرات القانونية لا تقتصر على أمريكا اللاتينية، بل قد تمتد إلى دول أوروبية وأخرى حول العالم، ما يعزز الجهود الدولية لملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين وتحقيق العدالة للأبرياء.
دعوة لاستثمار الجهد القانوني
وفي غضون ذلك؛ يدعو أحمد شحادة جميع الجهات الفلسطينية الرسمية والمختصة، إلى تكثيف جهودها في ملاحقة جنود الاحتلال المتهمين بارتكاب جرائم حرب، وتخصيص موارد مادية ومعنوية لدعم مثل هذه القضايا، والتواصل مع الناشطين حول العالم لتعزيز الجهود الرامية لتحقيق العدالة الدولية.
وينبّه إلى ضرورة تقديم الدعم المادي، المعنوي، والقانوني للناشطين الحقوقيين في مختلف الدول للمساعدة في رفع القضايا واستغلال الإمكانيات المتاحة لتعزيز هذه الجهود.
ويقول إن العديد من جنود الاحتلال يحملون جنسيات مزدوجة، ما يجعل من السهل ملاحقتهم في دول أخرى، قائلًا: "يمكننا جعل هؤلاء الجنود ملاحقين وهاربين مثل أي مجرم دولي، ليشعروا بجرائمهم ويدركوا عواقبها".
ويوضح شحادة، أن استمرار التحرك القانوني ضد جنود الاحتلال سيضع ضغوطًا كبيرة على صانعي القرار في "إسرائيل" وعلى المجتمع الإسرائيلي ككل، مما يساهم في إبراز القضية الفلسطينية على الساحة الدولية وتحقيق العدالة للضحايا.