لا يمكن للكلمات أن تصف تلك اللحظات، حين يضطر إنسان أن ينبش التراب بيديه، ليستخرج من تحته قطعة من روحه، جثمانًا بقي مدفونًا في الأرض مؤقتًا، حين لم يكن هناك وقت للوداع، ولا مكان للقبر، ولا لحظة لاحتضان أخير.
هذه هي الحرب، حين يصبح الموت على عجل، والدفن في الطرقات حلًا لا خيار فيه، والقبور المؤقتة شاهدًا على وحشية لا تعرف الرحمة، وبعد شهور طويلة، حين تهدأ النيران قليلًا، يعود الأهالي لينقلوا شهداءهم، يفتحون القبور كما لو أنهم يفتحون الجراح من جديد، يعيدون الدفن، ولكنهم لا يستطيعون إعادة الزمن ولا محو الفقدان.
"وكالة سند للأنباء" استمعت إلى شهادات مؤلمة من أهالي شهداء، اضطروا لدفن أقاربهم في مقابر مؤقتة على جنبات الطرقات، بعدما حالت شراسة الحرب دون تمكنهم من دفنهم بكرامة، قبل أن يتمكنوا من نقلهم إلى مقابر شرعية بعد توقف القصف في 19 يناير/كانون الثاني الماضي.
"معركة أخرى من الألم"..
شاب فضل عدم ذكر اسمه، يروى لنا ما لا يُروى، ما زالت يداه ترتجفان، وصوته ينكسر كلما استعاد المشهد في ذاكرته، كان ذلك في منطقة المواصي بخانيونس 23 يناير 2024، حيث لجأت عائلته ظنًا أنها "آمنة"، وفق تصنيفات الاحتلال، لكن الدبابات توغلت فجأة، وحاصرتهم الطائرات، ولم يكن هناك وقت للنجاة سوى بالركض، بالهرب إلى بيت مجاور، بينما بقي شقيقه خلفهم، لم يتمكن من الالتحاق، وحين انسحب الاحتلال في الصباح، عادوا ليجدوه شهيدًا.
"لم يكن أمامنا إلا أن نكرمه بالدفن في أقرب مكان"، قالها بصوتٍ متماسك ظاهريًا، لكن داخله كان ينهار، مُكملًا: "دفنّاه في أرضنا الخاصة، مؤقتًا، حتى تتاح لنا الفرصة لنقله إلى مقبرة العائلة"، لكنه لم يكن يعلم أن هذا الدفن المؤقت سيترك جرحًا مفتوحًا، وأن استعادته لاحقًا ستكون معركة أخرى من الألم.
مرت الأيام، ثم الأسابيع، والسنة! حتى حان موعد نقل الجثمان، تم التنسيق مع طواقم الدفاع المدني، وكان عليهم الانتظار أيامًا حتى يأتي دورهم، فقد كان هناك الكثير من الشهداء بحاجة إلى نقل، إلى أن يُدفنوا بكرامة، وعندما حانت اللحظة، لم يكن الأمر سهلًا، حتى وإن بدا كذلك.
"بفضل الله لم نجد صعوبة في النقل، الجميع كان متعاونًا، لكن وكأن الجراح تفتحت من جديد"، قالها بنبرة موجعة، مضيفًا: "لأننا رأيناه مجددًا، وهذا ليس بالأمر المعتاد، أن ترى فقيدك مرة أخرى بعد شهور من دفنه"، كانت الصدمة تتجدد، وكان القلب يرتعش أمام المشهد.
لكنه، رغم كل شيء، رأى في ذلك كرامة، إذ بقي الجثمان كما هو، لم يتحلل، لم يتغير إلا قليلًا، "حمدت الله حينها"، قالها بصوت متقطع، وكأن شيئًا من الراحة امتزج بدموعه.
إلا أن أصعب ما في الأمر كان لحظة استخراج الجثمان، "ترددت كثيرًا، كنت خائفًا من أن أراه متغيرًا، من أن يكون التحلل قد أكل ملامحه، من أن تكون المهمة صعبة، لكنني حملت العبء الأكبر، كنت أنا من أخرجته، بمساعدة طواقم الدفاع، وحين رأيته تمنيت لو أنني أوقظه، لو يعود للحياة، ليكمل ما بدأه، لكن قدَر الله نافذ".
يُتمتم بصوتٍ يكاد أن ينقطع من شدة الضيق: "لم أستطع أن أحمله سوى خطوات بسيطة، شعرت بشيء يكتم أنفاسي، يقيد أطرافي، وكأنني لا أريد أن أودعه مرة أخرى، وكأن الرحيل يتكرر، والموت يحدث للمرة الثانية".
"ليلة كاملة على حضن والدتها"..
يقول المواطن إياد وشح والحسرة تخنقنه، "ابنتي الصغيرة استشهدت في نوفمبر 2023 كانت في المدرسة معسكر جباليا، مقابل بيتنا تمامًا، حين استُشهدت باستهداف إسرائيلي بالقرب منها، لم نستطع دفنها فورًا، كان القصف لا يتوقف، والسماء تعج بالطائرات خاصة الكواد كابتر، وكأنها تبحث عن شيء لم تكتفِ بأخذه بعد، كنا نعلم أن الخروج مستحيل، وكنا نخشى حتى الاقتراب، مرت الليلة الأصعب، بقيت ابنتي في حضن والدتها، تلفّها بين ذراعيها كما لو أنها تحاول أن تحميها حتى بعد الرحيل، وفي اليوم التالي، كان لا بدّ أن نواريها الثرى، ولو بشكل مؤقت".
ويُتابع: "وجعي لا يوصف، لم يكن قبرها الحقيقي، ولم يكن وداعها الأخير، وضعناها في مكانٍ اضطررنا إليه، في زاويةٍ من الأرض، ليس لأننا أردنا، بل لأن الحرب قررت لنا ذلك، لم يكن لدينا وقت للحزن كما يجب، ولا للبكاء كما تستحق، لكنّ الله خفّف عنا، وحين رأيناها بعد عام وأشهر، كانت كما هي... وجهها، ملامحها، وحتى رائحتها التي بقيت تفوح كأنها ما زالت".
ماذا عن اللحظة التي جاءت لدفنها مرة أخرى؟ يُجيب بعد تنهيدة: "ارتجفت يداي، كان علينا أن نواجه الحقيقة مرة أخرى، أن نفتح القبر بأيدينا، أن نراها حيث وضعناها قبل شهور، لم يكن هناك تنسيق رسمي، كل ما في الأمر أننا قررنا أن نكمل ما بدأناه حين هدأت الأوضاع قليلًا بعد انتهاء الحرب، لكن كيف لنا أن نعيد ملامح الرحيل إلى ذاكرتنا؟ كيف نرى الموت من جديد؟ كيف نحملها للمرة الأخيرة؟
ويسرد "وشح"، "يدي لم تقوَ على حملها، لم أستطع أن أودعها بيدي، لكنّ وجعي لا يعرفه إلا الله، فكيف بأمّها التي احتضنتها حتى آخر لحظة؟ وكيف بقلبي حين وضعتها للمرة الأخيرة؟ لا شيء يعزّينا إلا أنها عند من هو أرحم بها منّا، الله يرحمها ويجعل مثواها الجنة".
"لن نغفر لكل من خذلنا"..
تقول الشابة إيمان معين (22 عامًا) والألم يعصف بقلبها: "استشهد والدي في 8 ديسمبر 2023، أثناء نزوحنا من منطقة الجلاء، بعد أن استهدفتنا قذائف المدفعية وطائرات الكواد كابتر، كان يومًا أشبه بأهوال يوم القيامة، كنا نجري في الشوارع، القصف يلاحقنا من كل ناحية، والدبابة على مسافة قريبة منا، لم يكن هناك مأوى، لم يكن هناك أمان، كنا نبحث عن أي مكان يحمينا من الموت الذي كان يحوم حولنا".
وتُتابع "معين"، "عيني لا تنسى تلك اللحظة، أصيب والدي أمامي، برصاصة من الكواد كابتر، أردَته أرضًا، ولم أستطع إنقاذه، بحثت عمن يساعدني، دخلت منزلًا غريبًا أطلب العون، لكن قبل أن أتمكن من العودة إليه، سقطت قذيفة على الباب، لتنهي حياته أمامي مرة أخرى".
وتسرد بكلماتٍ شجية: "لم يكن أمامنا خيار سوى دفنه في شارع عام، بمنطقة أبو الأمين بالشيخ رضوان، كان الوضع لا يسمح لنا بشيء آخر، أن يُدفن والدي بهذه الطريقة زاد من وجعنا، لم يكن هذا ما يليق به، لم يكن هذا ما تمنيناه له، لكنه كان الوحيد الممكن في تلك اللحظة".
وتُكمل "معين"، "ظل الشعور بالذنب يلاحقنا، طوال شهور الحرب، ظللنا نشعر أننا تركناه وحيدًا، رغم أننا نعلم أن روحه تحلق في الجنة بإذن الله، لم نستطع مغادرة الشمال، لم نتحمل فكرة الابتعاد عنه، فبقينا بجانب قبره العشوائي، نزوره دون أن نعرف أين هو تمامًا، نبحث عنه بين القبور المتناثرة، ونعود من كل زيارة بحزن مضاعف، مهمومين بفكرة أن العالم كله تركنا نعاني، دون أن يمد يد العون لنا".
وتضيف "ضيفة سند"، "حين وجدنا قبر والدي المؤقت بعد البحث الطويل، نقلنا جثمانه بجانب جثمان جدتي "والدته"، كما كانت وصيته، تلك اللحظة لم تكن مجرد نقل لجثمان، كانت إحياءً لكل الأوجاع، لكل الذكريات التي حاولنا أن نكتمها، استعدنا صورة اليوم الذي استشهد فيه، حين كان يحاول أن يؤمّن لنا الطريق، ويحمينا بجسده، فتلقى عنا رصاص الاحتلال وغدره".
وتذكر "معين" شعور اللحظة حينها، "ما خفّف علينا، أن جسده كان كما هو، لم يتحلل، رغم مرور أكثر من عام على استشهاده".
وبالرجوع إلى اللحظة الأولى من استهدافه، تُعبّر: "لا أنسى إخوتي الصغار، حين رأوه ملقى على الأرض، ودمه الطاهر يتدفق منه، لا أنسى وجوههم الحزينة، نظراتهم المذهولة، بكاءهم حين أدركوا أنه لن يعود، لا أنسى أمي، التي كانت تنزف بشدة وقتها، كيف كدنا نفقدها هي الأخرى، كيف كان إخوتي يتوسلون إليها ألا تموت، كانوا يبكون بحرقة: "لمين حنضل لو لحقتي بابا؟ أمانة خليكِ".
وتضيف بقلب يلفّه القهر: "لن ننسى، ولن نغفر، لا للاحتلال، ولا لكل من خذلنا وتواطأ في إبادة أهلنا، في تجويعنا، في ترهيب أطفالنا، حتى أختي ذات العشر سنوات، حين حملنا الجثمان، ظنت أننا قادرون على إعادته إلينا، على أن نسمعه، أن نحادثه، أن يعود كما كان، ولم أجد ما أقول لها".