الساعة 00:00 م
الأحد 27 ابريل 2025
22° القدس
21° رام الله
21° الخليل
25° غزة
4.82 جنيه إسترليني
5.11 دينار أردني
0.07 جنيه مصري
4.13 يورو
3.62 دولار أمريكي
4

الأكثر رواجا Trending

عدد شهداء الحركة الرياضية في ارتفاع متواصل

كيف انتزعت الحرب روح الأماكن في غزة وحولتها إلى مأوى للنازحين؟

حين يغيب نداء الأم للسحور.. كيف يبدو رمضان في ظل الفقد؟

حجم الخط
فقدان الأمهات على مائدة الفطور
غزة - إيمان شبير - وكالة سند للأنباء

للحزنِ ملامح لا تخطئها العين، وأشدّها وضوحًا هذا العام، موائد رمضان في غزة التي ينقصها دفء الأمهات، كان رمضان يبدأ من أيديهن، من أصواتهن التي توقظ الجميع قبل الفجر، من حرصهن على أن يُعددن كل شيء بلمساتهن، كأنهن يبنين بهذا الطعام عالمًا من الأمان.

يعرفن دون أن يُسألن ماذا يحب كل واحد من أفراد عائلاتهن، يحفظن تفاصيلهم الصغيرة، يصنعن لكل واحد وجبته المفضلة، يضعن للصغار تمرة في راحة أيديهم قبل الإفطار، ويُعددن للكبار أكواب العصير التي يفضلونها، لكن هذا كان قبل أن تغيّبهن آلة القصف الإسرائيلية، قبل أن تُمحى بصماتهن من البيوت، اليوم، يحاول من بقي تقليدهن، لكن المذاق ليس ذاته، والرائحة ناقصة، والدفء الذي كان يملأ المكان لا يعوّضه شيء.

ووفقًا لتقارير الأمم المتحدة، يُقدَّر عدد الأطفال الذين فُصلوا عن ذويهم في غزة بأكثر من 17 ألف طفل، فيما ذكرت وزارة الصحة في غزة أن نحو 35 ألف طفل فقدوا أحد والديهم أو كلاهما خلال عام، منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.

"أفتقد الحب والبركة في دنياي"..

تقول الشابة إلهام كمال أبو عسفة، ابنة الشهيدة سامية مقبل، مديرة مدرسة رفيدة الإسلامية الثانوية للبنات – دير البلح: "استشهدت أمي الغالية في يوم السبت 23-12-2023، إثر قصف إسرائيلي غادر استهدف منزلنا بصواريخ الـ F16، كان ذلك في الساعة الخامسة والنصف مساءً، قبل صلاة العشاء".

وتتذكر "أبو عسفة" عن علاقتها بأمها: "كانت علاقتي بأمي فريدة من نوعها، لم تكن فقط أمًا، بل كانت صديقة وأختًا ورفيقة، صندوقًا لأسراري، وملاذًا لقلبي، كانت أمي، في كل لحظة، مصدرًا للراحة والدعم، وعندما كنت أشكو لها همومي، لم يكن لها سوى الدعاء والبركة التي كانت تزول كل متاعب حياتي".

وعن رمضان، تسرد "أبو عسفة" بكل أسى: "شهر رمضان بدون أمي يبدو وكأنه لا شيء، كانت أمي تُحيي رمضان بكل تفاصيله، تفرح بقدومه وتستعد له منذ بداية الشهر، كانت تجلب الزينة والفوانيس بيدها، تختارها بعناية لتزين بها المنزل، ولم تقتصر على منزلنا فقط، بل كانت تجلب الزينة لأخي همام ولِبيوت أخواتي أيضًا، كي تملأ الأجواء بفرحة رمضان في كل مكان، كان رمضان في بيتنا ينبض بالفرح بفضلها، وكان الجميع ينتظر منها هذا العطاء المتجدد."

وتضيف: "أما عن اليوم الأول من رمضان، كانت أمي تؤمن بفكرة البدء بأكلة الملوخية، حتى تكون البداية خضراء، كما كانت تقول، لأن هذا يرمز للنماء والبركة، فكان المطبخ يعج برائحة الملوخية الطازجة التي كانت تحضرها بحب ورِقّة، ومن ثم تليها البامية التي كانت تطهوها بعناية فائقة".

وتُكمل ضيفتنا، "لم أستطع تناول هذه الأكلات دون أمي، كانت تلك اللحظات المميزة التي تملأ المنزل بعبق ذكرياتها، وكانت دائمًا تقول لنا أن الأكل في رمضان يجب أن يحمل طعم الخير والبركة."

وتسرد "أبو عسفة"، "كانت لأمي عادة جميلة، إذ كانت لا تترك أحدًا من أقاربها أو صديقاتها دون زيارة في رمضان، لتجسد روح صلة الرحم بأبهى صورها، كانت تذهب من بيت لبيت، حاملة معها الدعوات الطيبة والهدية البسيطة التي تجعل من كل زيارة حدثًا لا يُنسى، "كانت تزرع فينا أهمية الحفاظ على صلة الرحم، وكانت دائمًا تقول: (العائلة هي منبع الحب والبركة) وأنا الآن أفتقد الحب والبركة في دنياي.

وتتابع "أبو عسفة" عن أبرز عادات أمها في رمضان: "كانت أمي تُشجّعنا على الصيام، تُحفزنا على الصلاة، وتُعلّمنا كيف نستقبل رمضان بالدعوات، بالرضا، وبالبركة، كانت دائمًا تستيقظ قبيل الفجر لتحضير السحور، وتستيقظنا معها بيدها الطيبة، أما عن الأيام الأخيرة من رمضان، كانت تشدّد على أهمية الدعاء في الساعات الأخيرة قبل الإفطار، خاصة لحظة المغرب، حيث كانت تملأ المائدة بالدعوات المباركة."

وتُكمل "أبو عسفة" بحنين إلى تلك اللحظات: "أفتقد كل لحظة مع أمي في رمضان، خاصة دعواتها الطيبة لي قبل الإفطار وحين السحور، كانت تبتسم كلما وضعت الطعام على المائدة وتحرص أن يكون كل شيء جاهزًا، وكل شيء مفعمًا بالحب، كانت تختار لي طعامي بعناية، وكان لها ذوق جميل في اختيار ملابسي أيضًا".

وتعبر بكلماتٍ موجِعة: "الله يعلم كم أفتقدها في كل تفاصيل حياتي، وخاصة في رمضان، كانت هي الفرح الذي يملأ البيت، أما الآن، أحاول أن أكون القوة والسند لأختي الصغيرة، الناجية معي من استهداف عائلتنا، وأكمل ما بدأته أمي فينا، لكن لا شيء يعوّض غيابها، ولا شيء يمكن أن يعيد أيام رمضان بجمالها كما كانت هي تجلبها إلينا."

"أبو عسفة"، تحدثت عن كيف أن فقدان أمها جعل رمضان هذا العام يبدو مختلفًا تمامًا، تقول: "بعد فقداني لحبيبتي، أجد نفسي الآن أقوم بتحضير مائدة الإفطار والحزن يلف قلبي والدموع تتناثر على وجهي، ما إن أرى أختي مروة حتى أحاول إخفاء حزني وأبتعد بوجهي، والله يعلم أنني راضية وأتم الرضى والتسليم، لكن في أيامنا هذه، أفتقد وجود أمي كثيرًا. هي التي كانت تصنع أيامنا وتعيد لها الروح".

وتُعبّر، "في هذا الشهر الكريم، أشعر بتحدٍّ كبير جدًا، الآن، أصبح من الضروري أن أعد طعام الإفطار بنفسي لي ولأختي، فأساعد نفسي بوصفات أمي التي أستعين بها تارة، وأخرى بالوصفات التي أراها على يوتيوب".

وتشعر "أبو عسفة" بفراغ عميق في رمضان بعد فقدان أمها: "سأفتقد أن أذهب معها لصلاة التراويح، وأفتقد مشينا بعد التراويح، أمي كانت دائمًا تبادر في شرائنا لما نحب وما نريد، وكنت أفرح عند عودتنا لبيتنا، حيث كانت تجهز لنا حلا القطايف بكامل حبها وحنانها، كانت تجهزها لأبي ولإخوتي حتى يعودوا، وأحيانًا كانت تجهز كميات كثيرة لتوزيعها على المصلين بعد صلاة التراويح، الآن، أفتقدها في كل حبة قطايف تُعد الآن، فكلما رأيتها، شعرت بوجودها في كل تفصيل."

"رمضان بلا والداي"..

تقول الطفلة جنان زقوت (13 عامًا) من مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، :"استشهدت أمي في نوفمبر 2023 مع أختي الكبرى تقى، وجدتي، وخالتي، وأولاد خالي، في قصف همجي على المدرسة التي هربنا إليها من صواريخ الاحتلال، كان الهروب آخر أمل لنا، لكن القصف لم يرحمنا، وكان يومًا كارثيًا يلتهم حياتنا.

وتضيف "زقوت"، "بعد شهور قليلة، التحق والدي بأمي بعدما حرمه الاحتلال من حقه في العلاج بالخارج، كان يعاني من مرض السرطان، وكان في حالة صحية خطيرة جدًا، لكن والدي كان يحاول يكون قويًا أمامنا، كان يريد أن يشعرنا أنه ما زال قادرًا على تحمل المسؤولية رغم مرضه، يقول لنا إن كل شيء سيكون بخير، وكان الأمل في شفائه هو آخر ما تمسكنا به، لكن الاحتلال كان له رأي آخر، وأخذ والدي منا في لحظة لم نكن مستعدين لها، وها نحن هنا، أنا وأختاي لانا (10 سنوات) وفاطمة (3 سنوات) وحدنا، نواجه الحياة بلا أب ولا أم، وأحاول بكل قوتي أن أكون القوة اللي افتقدناها، لكن الألم عميق جدًا."

وتستطرد "زقوت"، :"ذا هو ثاني رمضان بلا أمي وأبي، في رمضان الماضي كنا نازحين مع خالتي في بيت أقاربنا في دير البلح، وكنا نعيش رمضان في ظل الحرب بكل ما فيها من خوف، لكن هذا العام، عدنا لبيتنا، ومع العودة جاء الألم مضاعفًا، لم أتخيل لحظة أن أعيش رمضان دون أمي وأبي".

وتسرد، "كانا أمي وأبي هما من يصنعان البهجة في كل زاوية من البيت، تجهيزات الزينة، الأكلات، العزايم، صلاة التراويح، والزيارات العائلية، كان لرمضان طعم خاص بوجودهم، كنا ننتظره بشوق، ولكن هذا العام، صعب جدًا، رغم حبي لروحانيات الشهر، تمنيت لو لم يأتِ رمضان، لأنه أتى ليبث الجراح من جديد.

وتُتابع حديثها: "قبل رمضان بيوم، نقلنا جثمان والدي من مقبرة عشوائية، وهذا ضاعف علينا الألم، شعور لا يوصف".

ماذا عن ذكريات طعامك المفضل مع والدتك، تُضيف: "كانت أمي تتفنّن في إعداد القطايف بأشكاله المختلفة، وكانت الأكلات التي تحضرها، خاصة السمك والستيك والمسخن، تحمل طعمًا خاصًا لا يشبه غيره، كنت أتمنى لو أن الزمن يتوقف عند آخر رمضان قضيناه معًا".

وتُكمل، "اليوم، نعيش مع خالتي في بيتنا، وهي تحاول أن تكون أمًا لنا بعد أن فقدنا أمي، لكنها تبقى تحاول، ونحن نعيش تحت سقف واحد يملؤه الحزن والألم، لكننا، ربما، أفضل حالًا من غيرنا، لأن هناك من فقد والديه وكل ما يملك، هناك أطفال لا يجدون من يرعاهم".

وتهمس "زقوت"، "أختي الصغيرة، منذ عودتنا إلى البيت، أصبحت تشعر بكل زاوية تذكرها بأمي وأبي، ودائمًا ما تطلبهما، نحن جميعًا اشترينا ثيابًا جديدة، لكنها لا تزال تطلب أن نأخذها لأمي، أنا مثلها، أود لو أنني أستطيع أن أذهب إليهما، أو لو أن هذه الحرب لم تشتعل أبدًا، فبقيت عائلتي كما كانت."

وتروي أصبحنا نفتقد كل شيء، حتى بيت جدتي لم يعد لنا، حيث كنا نذهب لقضاء العشر الأواخر من رمضان كما كانت العادة، كان والدي يعتكف في المسجد ونحن نذهب إلى بيت جدتي. لكن الاحتلال حرمنا من كل هذا، استشهدت جدتي وخالتي، ومن شدة القصف أصبح منزلهم غير صالح للسكن".