سحور تخجل منه قطع الخبز الجافة، وإفطار يُجمع من فُتات "وجبتي" الغذاء والعشاء التي لا تُذكر، يُغمس بطعم الصبر على البلاء، ولا مجال لإعادته لأن العذاب والعقوبة سيكونان سيدا الموقف.
هذا حال 10 آلاف أسير فلسطيني يُصارعون بأمعائهم الخاوية وأجسادهم الهزيلة الجوع والعذاب؛ لقضاء شهر رمضان في سجون الاحتلال الإسرائيلي بأخف وطأة تعذيب، لكن على عكس ذلك، فقد كان هذه المرة الأصعب في تاريخ الحركة الأسيرة.
ويشهد الأسرى الفلسطينيون حالة من سلوك التوحش منذ السابع من أكتوبر/ تشرين أول 2023، وما لبثت أن تحولت إلى فعل يومي ازدادت قسوتها مع حلول رمضان الأول بعد الحرب على القطاع، دون أن تفارق تفاصيل الاستهداف ذاكرتهم.
وجع فقد القرآن والوقت..
ويختصر الوجع الذي التصق بذاكرة الأسير "أبو الحسن" في سجن النقب الصحراوي، يختصر تغييب الأسرى عن معرفتهم بوقت السحور والإفطار، ويحدثنا: "كنا لا نعرف الوقت ولا الساعة، بينما ترفض إدارة سجون الاحتلال وضع ساعة في باحات الأقسام".
ويفتقد الأسرى من الساعات الأولى نُسخ القرآن الكريم، التي كانت موجودة بشكل محدود جداً، لا تكفي أعداد الأسرى "المحشورين في غرف لا تصلح للحياة البشرية"، وفقاً لـ "أبو الحسن.
أما عن قسوة الحرمان من العبادة وسماع الأذان، يروي "أبو الحسن" أن إدارة السجون منعت رفع الأذان، كما أن خُطب الجمعة كانت محظورة واصفاً إياها كأنها "قنبلة نووية".
وعن العبادة في الشهر الكريم يؤكد ضيفنا في حديثه لـ "وكالة سند للأنباء" أنها كانت الأكثر تميزاً من بين السنوات الأخرى الطويلة في حياة الأسرى، ليس من باب "الرفاهية"، إنما من شدة الحرمان من وجود المذياع أو التلفاز اللذان من شأنهما إلهاء الأسرى عن العبادات الرمضانية.
"كان الصفاء بطعم آخر، كنا نشعر بالقرب من الله"، بلمعة كانت في عيني "أبو الحسن" يزيد: "ونستشعر أن قلوبنا تلتحف البركة في أكلح الظروف بين فقد وشتاء وبرودة وعذاب".
الطعام.. عذاب مُتجدد
أما سيناريو العذاب المتجدد، الذي لا ينفك يلازم الأسرى في كل رمضان "الطعام"، ويصف "ضيف سند" الطعام المقدم في السجون بأنه "لا يكفي طفلا صغيراً".
ومن بين ظلمة السجن يظهر بصيص أمل يلمع في الزنزانة الصغيرة لأسرى صاموا رمضان للمرة الأولى في حياتهم، "كان من المفارقات التي عايشناها فقد غمرت السعادة هؤلاء الأسرى، وتشاركنا معا ذات البهجة والصبر المركب".
إلى ذلك، يقول المُحرر الشيخ "أحمد"، وهو إمام مسجدٍ وسط الضفة الغربية، لـ "وكالة سند للأنباء" إن إدارة سجن "ريمون" في صحراء بئر السبع، نفذت خلال شهر رمضان حملات تنقل للأسرى بين غرف القسم الواحد، أو أقسام السجن أو بين السجون المغروسة في خاصرة الوطن.
"فُطور الصبر على البلاء"..
وينفي "الشيخ أحمد" أية تحسينات أو تغييرات في وجبتي السحور والإفطار، إذ بقيت الكميات الضئيلة المقدمة على حالها.
"سحور تخجل منه قطع الخبز الجافة"، بهذه الكلمات يصف "الشيخ أحمد" وجبة السحور التي تقدمها إدارة السجون، أما الإفطار "فيتم جمعه من شيء يقال له وجبتي الغذاء والعشاء. واصفاً إياه بـ "الفطور بطعم الصبر على البلاء".
ماذا عن إرجاع هذه الوجبات؟، يُبين ضيفنا أنه لا مجال لإعادة الطعام؛ لأن العقوبات لا تحتملها أجساد الأسرى الهزيلة، وحرصاً منهم على كبار السن والمرضى والصغار لأن العقوبة ستطال الجميع مَن أرجع ومن لم يُرجِع.
ولم يكتف الاحتلال بمثل هذه العذابات بل ترك ندبةً نفسية في قلب "الشيخ أحمد"، الذي كان يتناول وجبتي السحور والإفطار في عتمة الزنزانة، حيث تُطفئ إدارة السجون النور الكهربائي كعقوبة.
ويستكمل "الشيخ أحمد" سلسة العذاب المتواصل وغياب فرحة الفطر بعد طول صيام، يقول: "حرمتنا إدارة السجون من متعة تناول الطعام، وعند تناوله يزيدنا جوعاً فوق جوعٍ من قلته؛ لقيمات لا تكفي لبقائنا على قيد الحياة والقوة".
أيام رمضانية "سوداوية"..
ولا يختلف حال المحرر "أبو يامن" عن بقية الأسرى الفلسطينيين، إلا أنه يستذكر أياماً رمضانية "سوداوية" في سجن جلبوع، يصفها بـ "الأسوأ في تاريخ الحركة الأسيرة"، فكان القمع والتنكيل الذي سيد الموقف وينتهي بالطعام القليل.
ويكشف "أبو مؤمن" لـ "وكالة سند للأنباء"، عن التشديد في أداء الفرائض الدينية والعبادات وقيام الليل والتراويح وقراءة القرآن، كذلك حظر رفع الأذان وخطبة الجمعة في رمضان وغيره.
ويفتقد الأسرى جميعاً "الوعاظ" وحلقات الذكر، حيث "كانت حركة الرقابة وجولات السجانين من الجنسين كل نصف ساعة ترصد أنفاسنا" وفقاً لـ "حديث ضيف سند".
وفي مشهد تتمثل فيه انهزامية "الجيش"، ويُظهر مدى الرعب الذي يُدَبُّ في صدورهم، يُحدثنا "أبو مؤمن" أن السجانين كانوا يتنصتون على الدعاء وطبيعة آيات القرآن التي يتم تلاوتها، أما يوم الجمعة فقد كان استنفاراً في سجني "جلبوع" و "شطة"؛ لضمان منع الخطبة وحتى صلاتها.
وتتعمد "إدارة السجون" تجزئة النسخة الواحدة من المصاحف لعدة أقسام؛ لضمان قيام الأسرى بقراءة التعبد، ناهيك عن غياب الورق والقلم والكتب كـ "مواد محظورة".
"جريمة" رفع الآذان..
لم يرتكب جريمة إنما رفع الأذان، فهذا المُحرر بكر خريوش من مخيم طولكرم، قد شهد صنوفاً من العذاب أبرزها تعرضه للضرب الوحشي لدرجة فقدان الوعي، كذلك التنكيل بجميع الأسرى في الزنزانة؛ لقيامه برفع الأذان الذي اعتبرته إدارة السجن كسرًا لكل قواعد المحظورات كـ "جريمة أمنية تستحق العقوبة الشديدة"، وفقاً لما ذكره "أبو مؤمن".
ويُنبه "أبو مؤمن" إلى أن إدارة السجن كانت تُغرر الأسرى في الإجابة عن مواقيت الإفطار، مستدركاً: "لكن بدورنا كنا حذرين للغاية؛ لضمان الالتزام بالوقت ولو على حساب أمعاءنا الخاوية أصلاً".
ولم تقتصر عقوبة التفتيش والتنكيل بالأسرى على رمضان فالقمع مستمر والتفتيش متواصل، ولا فرق بين رمضان وسواه من الشهور.
وها هم عشرة آلاف أسيرٍ وروح عُلِّقت برمضان، يعود عليهم هذا العام ككل عام، في ظلمات بعضها فوق بعض، ظلمة العذاب وظلمة السجن وعتمة الزنازين شديدة الحراسة الأمنية والتكنولوجية.