لم يتسلل اليأس لنفس المحرر الأردني من أصولٍ فلسطينية مرعي أبو سعيدة يومًا، رغم كل من كل ما كان يُحيطه داخل أسوار الزنازين من معاناة وتعذيب وإهانة وتضيقيات، إذ كان على يقين ثابت بأنه سينتزع حريته رغمًا عن سجّانيه.
واعتقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي، مرعي أبو سعيدة وهو بعمر الـ 35 عامًا، في العام 2004 وحكمت عليه بالسجن المؤبد 11 مرة، بتهمة الشروع في قتل مستوطن إسرائيلي.
وجرى إبعاده إلى مصر بدلًا من السماح له بالعودة إلى أحضان الأردن، عقب إطلاق سراحه في فبراير/ شباط الفائت، ضمن المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار وصفقة تبادل الأسرى بين المقاومة و"إسرائيل".
يقول في حديثٍ مع مراسلة "وكالة سند للأنباء" إنّ الأسير الفلسطيني يتعرض لكل أنواع التعذيب الجسدي والنفسي من لحظة اعتقاله حتى لحظة تحرره، لكنّ أساليب الاحتلال الانتقامية تصاعدت بشكلٍ غير مسبوق بعد السابع من أكتوبر/ تشرين أول 2023.
وتنقل مؤسسات الأسرى بشكلٍ مستمر، شهادات وإفادات صادمة ومروّعة من معتقلين فلسطينيين داخل سجون الاحتلال أو مفرج عنهم، وتكشف جزءًا من أساليب التّعذيب الممنهج؛ مما أدى لاستشهاد العشرات منهم.
وفي السجون يجد الأسير نفسه أمام جدران أربعة تجعل خيارات الحياة أمامه محدودة جدًا، وربما تقضي على ما تبقى في النفس من آمال، لذا قرر ضيفنا ألا يستسلم رغم محكوميته العالية والظروف الصعبة التي كان يعيشها بفعل إجراءات إدارة السجون بحقهم
يُخبرنا: "الحياة في السجن تفرض عليك نمطًا واحدًا للعيش، فإما أن تستلم أو تتأقلم بما هو متاح وتستفيد منه من أجل تطوير ذاتك والحفاظ على شخصيتك ومزاجك العام، لهذا كنت أوزع وقتي ما بين قراءة وممارسة الرياضة وتأدية العبادات الدينية، ومتابعة الأحداث الميدانية والسياسية والمشاركة في المحاضرات واللقاءات الإعلامية".
وحصل مرعي أبو سعيدة خلال فترة أسره على شهادة البكالوريوس في تخصص التربية الإسلامية، من جامعه القدس المفتوحة، كما حاز على شهادة السند في صحيح البخاري، والسند في تلاوة القرآن بثلاث قراءات.
ويشير إلى أنّ ذلك له الأثر الكبير في ضبط البوصلة النفسية لدي الأسير باتجاه الإيمان والرضا بقضاء الله وقدره، مستطردًا: "أن تُنظّم حياتك في السجن وفق برنامج محدد يحول دون أن تنال منك وطأة السجّن وظلم السجّان".
لكن لا بد من لحظاتٍ يضعف فيها المرء فهذه فِطرة إنسانية، فما هي أصعب المواقف التي تمر على الأسير في زنزانته؟ (سألناه) فسبقت إجابته تنهيدة: "كثيرة هي المواقف لكن أصعبها أن يأتيك خبر وفاة قريب لك(..) غبت عنه قسريًا ثم لا يُتاح لك أن تودعه قبل أن يوارى الثرى".
كما أنّ حرمان الأسرى من زيارة ذويهم خلال فترة الأسرى ولو لدقائق معدودة، أمر قاهر ومؤلم بالنسبة للأسرى، وهذا "مرعي" تُوفي والده ولم يره، ولم يحظَ بنظرة حانية ولا عناق واحد من والدته طوال فترة الأسر.
ولا يغفل قلبه عن الهمّ العام الذي يتشاركه مع بقية الأسرى حين يعلمون بمآسي المدنيين وما يتعرضون له في الحروب الإسرائيلية المتكررة على غزة أو بالاجتياحات التي تتعرض لها مدن الضفة الغربية.
وتنقل "مرعي" بين عدة سجون كان آخرها سجن نفحة الصحراوي، ويُعد من أبرز الأسرى الذين واجهوا ظلم السجّان وإجراءته القمعية بأمعائه الخاوية، حيث خاض مع مجموعة من رفاقه الأسرى، إضرابات عن الطعام.
أمل بالحرية لا يغيب..
ويبقى الأمل بالحرية يوما ما، هو ما يخفف من وطأة الاعتقال خاصة لدى أصحاب المحكوميات العالية، عن ذلك يؤكد أنّ اليقين بإتمام "صفقة قريبة رغم انعدام الأسباب حولنا، يظل يرواد عقولنا على مدار الساعة، وهذا يجعلنا في حالة انتظار مقرونة بالأمل أن الحرية ستتحقق بأي وقت".
وتعزز الأمل لدى ضيفنا بعد عملية "طوفان الأقصى" فجر السابع من أكتوبر 2023، التي تمكنت خلالها المقاومة أسر عشرات من الإسرائيليين من مستوطنات غلاف غزة.
وفي السابع عشر من فبراير الفائت، تحرر مرعي "أبو سعيدة" من القيد، لكن بدلًا من أن يعود إلى أحضان بلاده، أبعده الاحتلال إلى مصر، حيث كانت العائلة في انتظارهم.
ويصف لحظة الحرية بالقول: "لا شك أن المشاعر كانت متناقضة وممزوجة بالفرح والصدمة نتيجة الظروف الماسأوية التي عشناها في السجون ولا يسعها إدراك، وعاشها أهلنا خارج أسواره بفعل حرب الإبادة"..
وفي ختام حديثه بعث "أبو سعيدة" رسالةً إلى أهل غزة قال فيها: "هذا قدركم وقدرنا أن نكون رأس الحربة في الدفاع عن مقدساتنا وشعبنا وأمتنا ضد أطماع عدونا(..) ويؤكد لنا التاريخ أن الشعوب المحتلة لا تحصل على حقوقها إلا ببذل الدماء والتضحيات".
وتحرر بموجب اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في يناير/ كانون 2025 واخترقته "إسرائيل" لاحقًا، عن 1777 أسيرًا فلسطينيًا إلى جانب أسير أردني واحد، بحسب نادي الأسير الفلسطيني.
ومن بين هؤلاء 285 أسيرا محكوما بالمؤبد و1046 أسيرا من غزة اعتقلوا بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، و69 طفلا، و71 امرأة، و41 مسنا.
ومقابل هذا العدد من الأسرى، أطلقت فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة 33 أسيرا إسرائيليا، 25 منهم أحياء و8 جثامين.