كشفت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية عن أن ضباطًا كبارًا في الجيش الإسرائيلي أعربوا في جلسات مغلقة عن قلقهم من أن قطاع غزة بات على أعتاب مجاعة واسعة النطاق، في ظل استمرار الحصار الخانق ومنع دخول المساعدات الإنسانية الأساسية.
وبحسب الصحيفة، فقد أقر ثلاثة مسؤولين عسكريين إسرائيليين مطلعين على الأوضاع الإنسانية بأن وتيرة إدخال المساعدات الحالية غير كافية لمنع الكارثة، وأن الأمور قد تخرج عن السيطرة خلال أسابيع معدودة ما لم يتم التحرك بشكل جدي.
وقالت الصحيفة إن هذه التصريحات تتناقض مع الرواية الرسمية التي تروج لها الحكومة الإسرائيلية، والتي تزعم أن الوضع في غزة "صعب لكنه تحت السيطرة"، وتصر على أن الحصار المفروض موجه ضد حركة حماس وليس ضد السكان المدنيين. إلا أن المؤشرات الميدانية وتقارير المنظمات الدولية ترسم صورة مغايرة تمامًا.
الوضع الإنساني: مؤشرات على كارثة وشيكة
منذ بدء الحرب في أكتوبر 2023، فرضت دولة الاحتلال قيودًا مشددة على دخول الغذاء والدواء والوقود إلى قطاع غزة.
وفي مارس 2025، تم فرض حصار كامل على معظم مناطق القطاع، ونتيجة لذلك، انهارت منظومة الأمن الغذائي بشكل شبه كامل، وأغلقت معظم المخابز والمطابخ المجتمعية بسبب نفاد المواد الأساسية.
وفقًا لأحدث تقارير "تصنيف مراحل الأمن الغذائي المتكامل" (IPC)، فإن 93% من سكان غزة يعانون من انعدام الأمن الغذائي، فيما يُصنف حوالي 470 ألف شخص في المرحلة الخامسة الكارثية (Famine Phase)، وهي أعلى مستويات خطر الجوع والموت بسبب نقص الغذاء.
وتحذر المنظمات الإنسانية من أن الأطفال والنساء الحوامل وكبار السن هم الأكثر عرضة للموت في حال استمر الوضع على ما هو عليه.
العرقلة المتعمدة للمساعدات
رغم الجهود الدولية لإدخال المساعدات عبر معبر رفح والطرق المؤقتة من دولة الاحتلال، تواصل السلطات الإسرائيلية فرض قيود تعجيزية على نوعية وكمية المواد التي يسمح بدخولها.
وقد أكدت مصادر في الأمم المتحدة أن تل أبيب اقترحت آلية توزيع للمساعدات عبر أطراف محلية تعتبرها إسرائيل "موثوقة"، لكن الأمم المتحدة رفضت المشاركة في هذه الآلية، معتبرة أنها لا تفي بالمعايير الإنسانية وتفتقر إلى الحياد.
الولايات المتحدة ومصر وقطر مارست ضغوطًا دبلوماسية على الحكومة الإسرائيلية لتخفيف القيود، إلا أن تل أبيب تربط أي تنازل بمدى تقدم المفاوضات حول ملف الأسرى، وهو ما أدى إلى تعثر المبادرات الإنسانية.
انقسامات داخل إسرائيل
الاعترافات التي نقلتها نيويورك تايمز تعكس وجود خلافات داخلية في دولة الاحتلال حول إدارة ملف غزة.
فبينما تدافع الحكومة، بزعامة بنيامين نتنياهو، عن استمرار الحصار كوسيلة ضغط استراتيجي، يعرب بعض الضباط في الجيش عن مخاوفهم من التداعيات الإنسانية والأخلاقية، فضلاً عن القلق من الانعكاسات الدولية على صورة تل أبيب.
مسؤول عسكري إسرائيلي سابق صرح للصحيفة، مفضلًا عدم الكشف عن اسمه، بأن استمرار تجاهل الكارثة الإنسانية قد يؤدي إلى "عزلة دبلوماسية متزايدة" وإعادة طرح مسألة العقوبات على "إسرائيل" في المحافل الدولية.
الأمم المتحدة، إلى جانب منظمات كـ "أطباء بلا حدود" و"برنامج الأغذية العالمي"، أطلقت تحذيرات صارخة من أن قطاع غزة يواجه خطر المجاعة الجماعية، مطالبة دولة الاحتلال برفع القيود فورًا والسماح بمرور المساعدات دون شروط سياسية.
كما حذرت منظمة الصحة العالمية من أن انتشار أمراض سوء التغذية بات يهدد أعدادًا متزايدة من الأطفال في القطاع.
رغم ذلك، يصر نتنياهو على أن الحصار سيبقى أداة ضغط حتى "عودة الأسرى"، وهو ما يطيل أمد المعاناة الإنسانية ويجعل حياة نحو 2.1 مليون فلسطيني رهينة للمعادلات السياسية والعسكرية.
وفي ظل هذا الجمود السياسي، تتفاقم الأوضاع في غزة يومًا بعد يوم، فيما تبدو الكارثة الإنسانية أقرب من أي وقت مضى.
وبينما تعترف أصوات داخل دولة الاحتلال بحجم الكارثة الوشيكة، يبقى القرار السياسي مأسورًا لحسابات أمنية وانتخابية ضيقة، ما ينذر بشتاء طويل من الجوع والموت في القطاع المحاصر.