في غزة، لم يعد المرض هو المشكلة، بل الجهلُ به، لم يعد السؤال: "ما الذي يؤلمك؟" بل "هل ستجد تحليلًا يُخبرك بما يؤلمك؟"، في مدينةٍ تحوّلت مختبراتها إلى ركام، وأجهزتها إلى خردة صامتة، وموادها إلى ذكرى عابرة، يعيش المرضى في سباقٍ مع الغموض، والعجز، والزمن.
مرضى يذبلون بصمت لأن جهاز الـ CBC تعطل، نساءٌ حوامل يمضين شهور الحمل بلا فحوص أو صور تُطمئن قلوبهن، مصابون بأمراض خطيرة لا يعرفون أسماء أمراضهم، ولا كيف يحاربونها، والسبب بسيط حد القهر: لا فحوص، لا أجهزة، لا مختبرات.
المختبرات التي كانت عين الطبيب، توقفت عن الرؤية، لا كهرباء، لا أدوات سحب دم، لا كواشف أو محاليل، ولا من يرسل النتائج، الأطباء يعملون في عتمة التشخيص، والمرضى يطرقون أبوابًا مغلقة، يتنقّلون بعينات الدم من مستشفى إلى آخر، بحثًا عن مكان لم يُدمَّر بعد، وعن مختبر لم تُنهِه الحرب.
تضع "وكالة سند للأنباء" في هذا التقرير صوتَ من انقطع عنهم الصوت، وتنقل شهادات من ظلوا في الميدان، يعملون على أجهزة شبه ميتة، ويستقبلون مرضى أكثر إنهاكًا منهم، شهادات تفضح انهيار المنظومة الطبية التشخيصية، وتكشف وجوهًا حقيقية لأشخاص لا يموتون لأنهم مرضى، بل لأن الحرب حرمتهم من أن يعرفوا ما بهم.
وتترنح منظومة المختبرات الطبية وبنوك الدم في قطاع غزة على حافة الانهيار، وسط نقص حاد في المواد المخبرية الأساسية والمستلزمات الضرورية للفحوصات ونقل الدم.
وتشير بيانات وزارة الصحة إلى أن نحو نصف أصناف الفحوصات والمستهلكات المخبرية المتوفرة في القطاع لن تكفي لأكثر من شهر، ما يُهدد بتوقف خدمات التشخيص في وقت تتزايد فيه أعداد المصابين وتتعقد الحالات الصحية.
ورغم اتساع الحاجة، يواجه الطاقم الطبي واقعًا أكثر قسوة مع تعمّد الاحتلال تدمير المختبرات داخل المستشفيات ومراكز الرعاية، ما أدى إلى خروج 514 جهازًا مخبريًا عن الخدمة، وقد بلغ حجم الدمار نحو 50% في مختبرات المستشفيات، و60% في مختبرات الرعاية الأولية، ما يضع القطاع الصحي أمام واحدة من أخطر أزماته منذ بدء الحرب.
"تعطل الفحوصات الضرورية"..
يُوضح الطبيب أحمد محيسن، أخصائي التحاليل الطبية في مختبرات أصدقاء المريض وسط مدينة غزة، أن جزءًا كبيرًا من الفحوصات الطبية أصبح شبه متوقف بسبب الحرب المستمرة على قطاع غزة.
ويشير إلى أن فحوصات الهرمونات، مؤشرات السرطان (Tumor Markers)، فحوصات الأنسجة، المزارع البكتيرية، وتحاليل الدم الكاملة (CBC) أصبحت نادرة جدًا، فيما تقلّصت فحوصات الكيمياء الحيوية بشكل حاد.
ويؤكد "محيسن" أن ما تبقى من مواد وأجهزة متوفرة فقط عبر وزارة الصحة، وغالبًا ما يُمنع إدخالها بسبب الحصار والهجمات، ما يتسبب بتعطّل الفحوصات الضرورية، موضحًا "في المستشفى التي أعمل بها، لا يوجد سوى جهاز CBC واحد، وقد تعطل لفترة قبل أن يتم إصلاحه، ومع ذلك، نضع سياسات صارمة لتقنين الفحوصات، ونقدّم الخدمات فقط للحالات الحرجة جدًا"، يضيف الطبيب.
ويُبيّن أن الحرب رفعت معدلات الإصابة بالسرطان بشكل كبير في القطاع، متوقعًا أنه بعد انتهاء الحرب، ستُظهر الإحصائيات أن أكثر من 300 ألف شخص في غزة يعانون من السرطان، وهذا رقم مرعب بالنظر إلى عدد السكان والمساحة"، وفق قوله.
ويستعرض الطبيب جانبًا من المعاناة التي مرت بها الطواقم الطبية، مشيرًا إلى أنهم اضطروا لمغادرة المستشفى بعد تقدّم القوات الإسرائيلية، ثم عادوا لترميمه بعد انسحابها، مبينًا: "دُمّرت الطاقة الشمسية للمستشفى، ولا بطاريات ولا ألواح بديلة، واضطررنا لاستعارة مولّد كهربائي من مستشفى آخر تم تدميره".
ويصف "محيسن" الوضع في المختبرات بأنه "أسوأ مما يوصف"، حيث يعانون من نقص حاد في الوقود، الأدوات، الأجهزة، والمواد الأساسية، مضيفًا: "الأجهزة التي نستخدمها شبه معطلة وقديمة جدًا، وبعض المواد منتهية الصلاحية، لكن لا بديل لدينا، حتى المتخصصون في هذا المجال قُتلوا، والمختبر الذي أعمل فيه هو ما تبقّى من نظام مختبرات شبه مدمر كليًا".
ويؤكد أن مرضى السرطان لا يتوفر لهم فحوصات متخصصة، ويتم الاكتفاء بفحوص CBC أو فحوصات عامة للأعضاء المتأثرة، كحل اضطراري، مستطردًا: "مختبرنا تعرض لحرق جزئي، بينما تم حرق مختبرات أخرى كليًا".
ويذكر "ضيف سند"، "المختبرات الطبية المتبقية قليلة جدًا، وبالتالي فإن الضغط عليها هائل، لا ننام من كثافة العمل"، مشيرًا إلى أنهم اضطروا إلى توزيع التخصصات بين المستشفيات القليلة العاملة، لتقليل الضغط وتوفير الحد الأدنى من الخدمات للمرضى، رغم ما يسببه ذلك من تشتيت بين أفراد الأسرة الواحدة.
ويقول ضيفنا: "أحيانًا تُرسل العينة لمختبر، والمريض يُحوَّل إلى مستشفى آخر من أجل صورة أشعة. نتعامل مع المرضى والعيّنات عبر ثلاث أو أربع مؤسسات حتى نؤمّن خدمة واحدة".
ويختم "محيسن" حديثه بالتأكيد أن المختبرات لم تتلقَ أي دعم أو وعود بالمساعدة، وأن التشخيص الطبي يعتمد حاليًا على الفحوصات القليلة المتوفرة، والكشف السريري، مع تحويل العينات والصور إلى مختبرات ومستشفيات أخرى.
"معاناة لا تتوقف"..
سهى جاد الله (50 عامًا) المريضة بالسرطان منذ أكثر من خمس سنوات، تجلس على أحد المقاعد المتهالكة داخل مركز إيواء مكتظ في مدينة غزة، كانت تراجع كل ثلاثة أشهر لإجراء فحوصات متخصصة لمتابعة تطوّر الورم في الكبد، لكن منذ بدء الحرب الأخيرة، انقطعت كل سبل المتابعة.
وتقول بصوت منخفض وقد بدت علامات الإرهاق على وجهها: "أنا مريضة سرطان، وعارفة خطورة حالتي، بس للأسف ما في إشي بقدر أعمله، من أول ما بلشت الحرب وأنا بحاول ألاقي مختبر يعمللي تحاليل tumor markers وفحوصات الكبد، بس كل ما أروح مستشفى أو مختبر، بلاقيهم إما مقفولين أو بيحكولي الفحص مش متوفر، لا أجهزة ولا مواد".
تتوقف للحظة لتلتقط أنفاسها ثم تضيف: "آخر فحص عملته كان من ستة شهور، الطبيب وقتها قاللي لازم أتابع كل فترة، وأي تأخير ممكن يكون خطر، اليوم، بطني بينتفخ، وبحس بآلام شديدة في الجانب، بس مش عارفة شو اللي بصير جواي، ولا قادرين يصوروا، ولا في حد يفحصني صح، حتى الفحوصات البديلة زي CBC مش متوفرة دايمًا".
تمسح سهى دمعة نزلت بصمت وتقول: "أنا مش خايفة من الموت، بس وجعي إني بموت بدون ما حدا يفهم شو صاير بجسمي، كانوا دايمًا يقولولي إن الفحص أهم من العلاج، طيب لما يختفي الفحص، شو ظل إلنا؟ أنا وغيري من مرضى السرطان بنتفرج على حالنا بننهار، وولا حدا سائل فينا".
"ألم الحوامل"..
تعيش غدير حسين وهي حامل في شهرها الثامن، حالة من القلق اليومي منذ أن بدأت الحرب على غزة، إذ لم تعد قادرة على إجراء أي من الفحوصات الأساسية التي تحتاجها كل امرأة حامل لمتابعة صحة الجنين.
تقول غدير، وهي تقيم في خيمة مؤقتة قرب منطقة الشاليهات غرب مدينة غزة، كل حملي ماشي عالعمياني، لا عندي صورة التراساوند، ولا عملت فحص سكر الحمل، ولا ضغط، ولا حتى فحص بول بسيط، كنت كل أسبوع أروح أتابع بمستوصف قريب من بيتنا قبل الحرب، بس الآن المستوصف اتدمر، والمستشفيات الثانية مشغولة بالجرحى وما عندهم فحوصات".
وتشير إلى بطنها وتضيف بحزن: "أنا تعبت، جسمي بيورم، ونفسيتي سيئة، وصارلي أسبوعين بحس بنغزات مش طبيعية، لما سألت ممرضة عن فحص CBC أو تحليل للمعادن، قالتلي المختبر واقف، حتى لو بدهم ياخدوا عينة، ما في مواد، ولا أجهزة، ولا حتى إبر كافية".
تكمل حديثها وهي تضع يدها على قلبها: "كل أم حامل بتتمنى تطمن على جنينها، تسمع دقات قلبه، تشوف صورته، أنا ما شفتش صورة لطفلي من أول ما حملت، وكل يوم بسأل حالي: الجنين بخير؟ في خطر؟ وأنا نفسي مش عارفة كيف وضعي، الحرب أخدت منا الأمن، البيت، المي، والأكل، وهسه حتى حاسة إنها بتسرق مني فرحتي بالحمل".