في قلب أحد أحياء مدينة غزة، حيث كانت الحياة تحاول أن تسير رغم الموت المتربص، تحوّلت لحظة عادية إلى مأساة لا تُمحى من ذاكرة طفلة عاشت أهوال الحرب بكل تفاصيلها.
كانت الساعة تشير للتاسعة والنصف من مساء السادس والعشرين من يونيو/ حزيران الماضي، لم يكن في حسبان الطفلة ناريمان عبد الله العيسى، ذات الأربع سنوات، أن تلك الليلة ستسرق منها أكثر من منزلها، ستسرق ساقها، عينها، وأمها.
كان والدها، عبد الله، قد خرج لشراء بعض الحاجيات للمنزل، وبينما كانت ناريمان، برفقة أمها، في بيت العائلة قرب مفترق السامر، وهي منطقة لم يصدر أي تحذير سابق بشأنها، وليست ضمن ما يعرف بـ"المناطق الحمراء"، سقط الصاروخ الإسرائيلي، ليحيل المكان إلى رماد، وتغرق الطفولة في بحيرة من الدم.
استُشهدت الأم، وأصيب أنس، بينما تم إنقاذ ناريمان من تحت الركام، بجراح شديدة ومؤلمة، في أيام لاحقة، وبعد عدة عمليات جراحية، بُترت ساقها اليسرى على مرحلتين، وفقدت عينها اليمنى إلى الأبد، أصبح جسدها الصغير ساحة للغرز والتدخلات الطبية، بينما قلبها الصغير لم يحتمل رحيل الأم.
يروي والدها عبد الله لـ"وكالة سند للأنباء"، بصوت يخنقه الحزن، كيف أوصلت الجدة خبر استشهاد والدتها إلى الطفلة، قائلة لها: "ماما راحت عند ربنا، راحت على الجنة"، لكن ناريمان لم تفهم كيف يمكن لحنان أمها أن يغيب، ولا تزال تردد كل يوم كلمات تهز الحجر: "هات لي ماما من الجنة".
ولطالما كانت ناريمان زهرة بين الركام، محبوبة من كل من يعرفها، ضحوكة، رقيقة، تشع بهجة وسرورًا رغم فقر المكان وظروف الحرب.
واليوم، بملامح شوّهها صاروخ الاحتلال الحاقد، لا تزال تحتفظ بجمال روحها، ذلك الجمال الذي لا تقدر آلة الحرب على محوه.
يحاول والدها اليوم، وبمساعدة مؤسسات إنسانية مثل الصليب الأحمر وأطباء بلا حدود، أن يوفر لها فرصة للعلاج خارج القطاع، حلمه أن تستكمل ابنته علاجها الجسدي والنفسي، أن تُركّب لها أطراف صناعية، وأن تستعيد شيئًا من طفولتها المسروقة، من ضحكتها التي يشتاق لسماعها كل صباح.
ففي غزة، لا تنتهي الحكايات عند الشهداء، بل تبدأ من عند الأحياء الذين يحملون آثار الغياب في أجسادهم الصغيرة وقلوبهم الجريحة، وناريمان، طفلة واحدة من آلاف، لكنها قصة تختصر وجع شعبٍ بأكمله.
حالات البتر بغزة.. الأعلى بالتاريخ الحديث
واستنادًا لمعطيات طبية رسمية في غزة فإن 1 من كل 10 إصابات في الحرب الأخيرة كانت بترًا لأطراف، نصفهم من الأطفال، كما أنّ الفرق الطبية تواجه تحديات غير مسبوقة في التعامل مع الآثار النفسية لهذه الإصابات، خاصة بين الأطفال والنساء الذين يعانون من صدمات عميقة.
ووفق منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونسيف"، فإن أكثر من 50,000 طفل استشهدوا أو أُصيبوا، في قطاع غزة بسبب حرب الإبادة المستمرة على القطاع.
وينتظر 14 ألف جريح ومريض على قوائم السفر بارقة أمل للعلاج بالخارج لدى وزار الصحة، حيث باتت حياتهم رهينة بفتح الاحتلال للمعابر.
ويفرض الاحتلال قيودا مشددة على سفر الجرحى والمرضى منذ اندلاع الحرب، وازدادت هذه القيود تعقيدا إثر إغلاقه المعابر كافة في الثاني من مارس/ آذار الماضي، واستئنافه الحرب يوم 18 من الشهر ذاته.
وكان معبر رفح البري مع مصر المنفذ الوحيد للغزيين على العالم الخارجي، غير أنه مدمر ومغلق كليا منذ اجتياح الاحتلال مدينة رفح في السادس من مايو/ أيار 2024، واحتلال المدينة بالكامل حتى اللحظة.