في قلب جنين، المدينة التي نُكبت بمخيمها المدمّر، وبفقد رجال صنعوا حالة نضالية سطّرت نموذجًا مقاومًا بالضفة الغربية، بزغت من بين الركام بارقة أمل حملتها أمهات وفتيات حافظات لكتاب الله، اجتمعن على مائدة القرآن الكريم في فعالية استثنائية جسدت روح الصمود والتحدي.
ورغم الألم والجراح، اجتمعت أكثر من 450 مشاركة في سردٍ جماعي للقرآن الكريم، ضمن مشروع نظّمته مديرية أوقاف جنين في مسجد النور بالمدينة، كان فيه صوت القرآن أقوى من صوت آليات الاحتلال التي تهدم المخيم، وإرادة الحفظ أقوى من رائحة الموت والدمار.
ومن قلب المعاناة، وُلد إنجاز قرآني فريد، حيث شهدت جنين الثلاثاء الماضي، سرد المصحف الشريف من قبل عشرات النساء في جلسة واحدة، وسط دعم شعبي ورسمي عكس وحدة الجهود وتكاتف أبناء المدينة الجريحة.
من جهتها، قالت مسؤولة قسم القرآن الكريم في مديرية أوقاف جنين، السيدة إيناس اشتيوي، إن الفعالية الأخيرة لسرد القرآن الكريم في جنين جاءت تتويجًا لعام كامل من العمل المتواصل، حيث تم تنظيمها ضمن مشروع استهدف فئات عمرية متنوعة تبدأ من 10 سنوات فما فوق.
وأوضحت اشتيوي في حديثها لـ "وكالة سند للأنباء"، أن المشارِكات في هذا المشروع قُسمن إلى مستويات متعددة، تبعًا لقدراتهن، فبعضهن سرد خمس أجزاء، وأخريات سردن عشرة أو خمسة عشر جزءًا، في حين استطاعت 19 مشاركة سرد المصحف كاملًا في جلسة واحدة. وأضافت أن المشروع شهد مشاركة نحو 450 سيدة، منهن 200 ساردة.
وأكدت أن عملية اختيار المشاركات تمّت وفق معايير دقيقة، حيث بدأت بإعلان عام تم على إثره تسجيل 500 طالبة.
وبسبب العدوان الإسرائيلي على مدينة جنين ومخيمها، نُظمت الامتحانات والاختبارات إلكترونيًا في المراحل الأولى، وفق ضيفتنا.
ولفتت اشتيوي، إلى أن الحافظات خضعن لعدة تصفيات دقيقة، شملت اختبارات في التثبيت، التلاوة، والتجويد، حتى تم اختيار أفضل 200 حافظة، استطعن سرد صفحة كاملة خلال دقيقة واحدة فقط، إلى أن تمكنت بعضهن سرد المصحف كاملًا خلال الفعالية في 6 ساعات و10 دقائق.
وأضافت: "كان بين المشاركات أمهات ونساء كبيرات في السن، ونساء يحملن أطفالهن أثناء التلاوة. هذا الإنجاز لم يكن سهلًا في ظل الظروف الصعبة التي مرت بها جنين، لكنه كان تعبيرًا صادقًا عن التحدي والإصرار على مواصلة الحياة والتعافي رغم كل المعاناة".
وأكدت "ضيفة سند" على الجهد والدور الكبير الذي بذلته المحفظّات في إتمام السرد وإخراجه بهذه الصورة رغم كل الصعوبات والتحديات التي شهدتها جنين.
وتوجهت "اشتيوي" بالشكر الإدارة العامة للأوقاف في جنين، ولجنة دور القرآن الكريم، وكل من أسهم في دعم المشروع، سواء من المؤسسات أو فاعلي الخير.
وأشارت إلى أن الفعالية حظيت بدعم واسع من المجتمع المحلي، حيث ساهمت العديد من الجهات في تمويلها، وتنظيمها، وتوفير وجبات الطعام للمشاركات والحضور، موضحة أن الفعالية امتدت من الساعة السادسة صباحًا حتى العاشرة والنصف مساءً.
واختتمت حديثها بالقول: "كان يومًا استثنائيًا، أفرح كل من حضره، وشكل مصدر فخر واعتزاز لأهالي جنين. هذه الجهود المتواصلة أثمرت إنجازًا لا يُنسى، وسنواصل بإذن الله هذه المسيرة في خدمة كتاب الله".
إنجاز استثنائي..
السيدة "أم كفاح" (55 عامًا) إحدى المشاركات في السرد، عبّرت في حديثها لـ"وكالة سند للأنباء" عن سعادتها وفخرها بالمشاركة رغم التحديات التي تواجهها جنين من عدوان إسرائيلي ومعاناة متواصلة على مدار الساعة.
وتقول "أم كفاح": "قبل عام سجلنا للانضمام بالفعالية، لكن اجتياح جنين حال دون عقدها في موعدها، كما لم يتم عقدها بالمسجد الذي تتم به هذه الفعاليات نظرًا لقربه من نقاط يتمركز بها جيش الاحتلال".
وتشير إلى أن ما يميّز الفعالية، هو عقدها رغم كل ما تعرضت له المدينة ومخيمها من عدوان ودمار، حيث كان من بين الساردات فتيات وطالبات نزحن من بيوتهن ويعشن ظروفًا صعبة.
وتضيف: "جنين وضعها استثنائي، فقرار المشاركة بفعالية تمتد لساعات طويلة ليس سهلًا، لأن قرار الخروج من منزلك بطبيعة الحال ليس أمرًا سهلًا أيضًا في ظل تواجد الاحتلال على مدار الساعة واقتحام المنازل ليل نهار".
وتكمل: "في الوقت الذي كنا نسرد فيه القران الكريم، كان الاحتلال قد أعطى تصريحًا لـ20 امرأة بالدخول لمخيم جنين، لكنه منع 8 منهن من الدخول عند وصولهن باب المخيم، حينها، كان من سمح لها بالدخول تبكي لما شاهدته من دمار، ومن لم يسمح لهن بَكين حسرة على فقدان منازلهن ومنعن من الوصول إليها".
وبصوت لا يخلو من نبرة التحدي والأمل تقول "أم كفاح": "مشاركتنا بالسرد هو رسالة تحدي بحد ذاتها، ففي كل لحظة هنا في جنين ممكن أن يكون هناك أحداث واعتداءات للاحتلال".
ويتواصل عدوان الاحتلال العسكري على مدينة جنين ومخيمها، وسط عمليات تجريف وإحراق منازل، وتحويل أخرى إلى ثكنات عسكرية.
وتسبب العدوان في نزوح قرابة 22 ألف مواطن بشكل قسري، وأجبرهم الاحتلال على مغادرة منازلهم، ويمنع عودتهم إليها حتى اللحظة، فيما استشهد 42 مواطنا.
وصعّدت قوات الاحتلال من عدوانها الشامل على مدينة جنين ومحيطها، في حملة عسكرية واسعة شملت اقتحامات، واعتداءات، واستيلاء على أراضٍ فلسطينية.