"حملنا أطفالنا ببطانياتهم وركضنا تحت القصف، لا نعرف إلى أين، فقط نريد مكانًا لا تهتز فيه الأرض تحت أقدامنا"… بهذه الكلمات الممزوجة بالخوف والانهيار، تصف ريهام الشعراوي، نازحة من حي الزيتون شرق غزة، الليلة التي فرت فيها مع عائلتها تحت وابل من النيران.
في المناطق الشرقية لمدينة غزة، التي تشهد قصفا أعمى ومكثف للآليات العسكرية للاحتلال الإسرائيلي، يعيش آلاف المدنيين، معظمهم من النساء والأطفال، لحظات لا توصف من الرعب والخوف مع كل ليلة جديدة، فالحديث المتزايد عن تصعيد ميداني وصفقات سياسية معلقة لا يزيدهم إلا قلقًا، وكأنهم رهائن للقرارات التي تُطبخ فوق رؤوسهم.
ليلة النزوح.. هروب من النار إلى المجهول
تقول الحاجة أم حسن حجي (62 عامًا) وهي تجلس على بطانية مهترئة في أحد مراكز الإيواء جنوب المدينة:" الساعة كانت قرابة الثانية فجرًا، سمعنا صوت المدفعية يقترب، والنوافذ ترتج. نهضتُ وصرخت في أولادي: قوموا بسرعة! لم نأخذ شيئًا… فقط خرجنا. حفيدي نسى حذاءه، خرج حافيًا دعس على الشظايا والزجاج المكسر."
عائلة أم حسن ليست الوحيدة، فقد وثقت "وكالة سند للأنباء"، قصصًا مشابهة لعائلات اضطرت للفرار في ساعات متأخرة من الليل، وسط الظلام وانهيار شبكة الاتصالات، ما جعلهم يخرجون دون حتى معرفة إن كان أقرباؤهم على قيد الحياة.
شظايا الموت في باحة المنزل
في مستشفى الشفاء بمدينة غزة، يرقد الطفل كريم ماضي (7 أعوام)، وقد شُظي جسده الصغير بعد سقوط قذيفة قرب منزلهم في حي الزيتون.
يقول والده، وهو يجهش بالبكاء: "كنا نستعد للنوم ، سمعنا صفيرًا، ثم انفجارًا، وجدنا كريم مغطى بالدم، شظايا أصابت بطنه وقدمه، الدكتور يقول إن حالته مستقرة، لكن من يعيد له أمانه؟ من يعيد له نومه الهادئ؟"
في نفس المستشفى، تصف السيدة ريم الديب (30 عامًا) لحظات الخوف التي عاشتها مع أطفالها الثلاثة: “كنا نختبئ خلف الثلاجة عند كل صوت قصف، ابنِي الصغير يبلل نفسه من الخوف، وابنتي توقفت عن الكلام منذ أسبوع."
الشرقية.. منطقة منكوبة بالصمت والخذلان
الأحياء الشرقية لمدينة غزة، كحي الشجاعية والزيتون وتفاح، أصبحت اليوم مناطق أشباح، فالشوارع خالية، والمنازل إما مهدمة أو مهجورة، والروائح الكريهة المنبعثة من تحت الركام تشي بأن هناك شهداء لم تُنتشل بعد ومع ذلك، لا تُصنف هذه المناطق كمناطق منكوبة بشكل رسمي، وكأنّ معاناة الناس لا تكفي.
وأدت أوامر الإخلاء التي أصدرها جيش الاحتلال إلى نزوح متكرر لحوالي مليون شخص منذ مارس 2025، بينهم عائلات فرت تحت القصف مرارًا وتعرّض أطفالها للبرد والمرض بسبب الإيواء في الشوارع أو الخيام، وندرة الغذاء والماء والرعاية الصحية.
واستُهدفت مناطق الإخلاء نفسها لاحقًا بالقصف، فتسببت بأعداد جديدة من الضحايا بين نازحين معتقدين أنهم في "مناطق آمنة".
"كل يوم بنموت مرة"
في مركز إيواء مكتظ في حي الصبرة، يصف أبو أحمد سلمي، وهو أب لخمسة أطفال، حالته النفسية:" أشعر أنني فاشل، طلعنا بنص الليل من بيتنا في شارع صلاح الدين ووصلنا على مدرسة الوكالة ونحن نجري على نفس واحد، لا أستطيع حماية أطفالي، لا أملك حتى وجبة ساخنة أقدمها لهم. كل يوم بنموت مرة من الخوف والجوع والحيرة."
الأطفال في مراكز الإيواء يعرفون كيف يميزون أصوات الطائرات، وكيف يخفون وجوههم وقت الانفجار، الحليب والحفاضات والدواء شبه معدومة، وحتى مياه الشرب أصبحت سلعة نادرة.
صرخة بلا صدى
في الوقت الذي تتحدث فيه وسائل الإعلام عن "صفقة" قد تغير وجه الحرب، لا يسمع أحد صرخات الناس تحت النار. هؤلاء النازحون لا يسألون عن السياسة، ولا يريدون الحديث في التحليلات، كل ما يريدونه، كما تقول أم حسن، هو: نريد أن ننام ليلة واحدة من دون أن نحمل أطفالنا ونركض بهم وسط النار.