على مر العصور، حين تمر في أسواق قديمة لمدينة ما، فإنها تمنحك الهوية والجسر للتواصل مع الأهالي الذين يقطنون فيها، فيها تُحفظ العادات ويُخلد التاريخ، في زواياها تُخبرك الكثير من التفاصيل القديمة.
"انزلوا على البلد، ميلوا على السوق" دعوةٌ موحدة ومنظمة، ينادي بها متطوعون في العديد من المدن الفلسطينية، في محاولة لبث الحياة من جديد في الكثير من تفاصيل الأسواق التاريخية الفلسطينية التي غابت بفعل العديد من الظروف.
ولأجل الحفاظ على تلك التفاصيل، وإحياء الروح فيها، انطلق معرض "حكايا السوق" في 24 من حزيران الجاري، والذي يضم في جنباته معرضاً تصويرياً معاصراً، يقدم فيه جوانب مختلفة للحياة اليومية داخل أسواق فلسطين التاريخية.
ويجري تنفيذ هذا المعرض بشكل متزامن في الأسواق القديمة المتواجدة في سبع مدن، وهي القدس والناصرة والخليل وعكا وغزة ونابلس ويافا.
وطن مصغر
ويرى القائمون على المعرض أن السوق بحجارته وأهله هو وطنٌ مصغّر، يعرض تنوّع وثراء الثقافة في فلسطين التاريخية وتركيبة حياة الفلسطينيين بداخله، وأنه على اختلاف أماكنه وأشكاله، يعبرُ عن تنوعٍ جمالي، ومعماري واجتماعي تجمعه جذور ثقافية واحدة.
إلا أن القائمون يلفتون إلى أن مكانة هذا الحيّز تتعرض لتهديدٍ وتهميشٍ مستمران؛ خصوصًا إثر صعود المراكز التجارية الحديثة من جهة وممارسات الاحتلال الإسرائيليّ في إعادة تشكيل حدود الجغرافيا بين الفلسطينيين من جهة أخرى.
تجربة فريدة
منسق مركز يافا الثقافي لحكايا السوق شاهر بدوي يقول لـ "وكالة سند للأنباء"، إن الفكرة بدأت من مجموعات شبابية في الداخل المحتل، ثم تبلورت أكثر واحتضنتها رابطة إنسانيات للأنثرولبوجيّين الفلسطينيّين، ثم امتدت لتشمل شركاء كثر على امتداد الجغرافيا الفلسطينية.
ويضيف: "إن هذا المعرض يشكل تجربة فريدة وتاريخية، تجمعنا رغم الحدود والجدران التي حاولت تقسيمنا وتوزيعنا على أقطارٍ مقطوعة عن بعضها، وحصرنا في انتماءات ضيّقة وخانقة، نجتمع اليوم لنخوض هذه التّجربة معًا داخل أسواق فلسطين الواسعة".
ويوضح بدوي أن هدف المعرض إحياء المشهد الفلسطيني في الأسواق القديمة، وكشف ثقافة أهله وحياتهم اليومية عبر الصّور التي التقطها أبناء وبنات هذه المدن، لتتشكّل هذه الصّور، بتنوّعها واختلافها، وترتسم كحكاية واحدةٍ مستمرّة، تمتزج فيها ملامح المعاناة بالأمل، والمأساة بالجمال، والظلم بالنّضال اليوميّ للحياة.
ويشير ضيف "وكالة سند للأنباء" إلى أن هذا المعرض هو حكاية سوقٍ فلسطيني شكّل عبر التاريخ، القلبَ النابض للمجتمع الفلسطينيّ بأكمله، واحتوى في أزقّته جميع أطيافه، سوق عريق يحاكي معمارُه تاريخ كلّ الحضارات العابرة وثقافات الشعوب المستمرة.
تجاوز الحدود
وينوي المعرض خلقَ لحظة متزامنة وتجربة مشتركة تتجاوز الحدود وتجمع أهل السّوق وأبناء الوطن عامّة داخل فضاءات السوق، لتخلق ممرات ما بين مساحات الأسواق وأهلها، وتتحول الصور الثابتة الى شبابيك تطل على تاريخها وإرثها.
"تحاول الصّور أن تنقل رائحة السّوق العبقة بالزّيت والزّعتر والصّابون والبهارات والبخور والقهوة، وأصوات البائعين والمشترين الّتي تصدح في أنحائه، وأن تروي حكاية صمود أهله واكتفائهم الذّاتيّ بإنتاج احتياجاتهم" _كما يذكر بدوي_.
ويضيف: " يأتي هذا المعرض إصرارًا على رواية حكايا السوق، وهو ليس إلّا مساهمة بسيطة تهدف إلى لمّ شمل الوطن في مكان وزمانٍ واحد، وجذب الجمهور إلى الأسواق وانعاشها".
ويلفت بدوي لـ "وكالة سند للأنباء" إلى أنه تم العمل على إنجاز هذا المعرض خلال أكثر من عامين، بالتّعاون بين الشبان والشابات المتطوّعين والمتطوّعات، والحركات الشبابيّة والمؤسّسات الشعبيّة الحاضرة في البلدات.
سرد الحكايا
واستقطب المشروع مصورات ومصورين شابات وشبان من أبناء وبنات تلك البلدات، بحيث كُلّفوا بالتقاط صور من الحياة اليومية داخل الأسواق؛ ومن خلال عرضها في أزقة السوق يتم حبك الجغرافيا الفلسطينية الممزّقة، وإعادة تشكيل المساحة العامة في السوق وتحويلها إلى معرض حيّ يسرد في ممراتها وأزقتها حكايا أهلها.
ويؤكد منسق مركز يافا الثقافي لحكايا السوق أن هذا العمل هو أكبر إثبات أن الوحدة الوطنيّة مشروع وليست شعارًا فقط، وأنّها طريق تبدأ بالتعاونِ والتّكافلِ الشعبيِّ وتتجه نحو التحرّر، فقوّتُنا في وحدَتِنا، وقلبُنا الواحِدُ ينبضُ في أسواقِنا، وإن كان نبضُهُ حياتَنا فإنّ إحياء السّوق واجبُنا.
ويلفت إلى أن هذا المعرض يؤمن بالفن كأداة للتّحرّر، وأداة للوحدة والحياة في الوطن، ومن خلال عدسة أبناء وبنات المدن والقرى الفلسطينية، قد تتحوّل الصورة الثابتة إلى ممرٍّ عابرٍ للحدود، أو شبّاكٍ يُطِلُّ على الحضارة والثقافة الواحدة والمتنوعة.
وفيما يتعلق بالصعوبات التي واجهت معرض "حكايا السوق" يذكر بدوي أنها تمثلت بعظم الفكرة وقلة الإمكانيات المادية والتمويل، واتساع رقعة العمل وما يرافقها من مشاكل تتعلق بكل موقع وخصوصيته، بالإضافة لعوائق الاحتلال من منعٍ لحرية التنقل بين الداخل والضفة والقدس، وحصار غزة.
إصرار الشركاء على تحويل الفكرة لواقع ملموس، كان له الأثر الأكبر في التغلب على العقبات من حيث استثمار الطاقات الشابة، وتحويل الإمكانيات المحدودة إلى خلية نحل فلسطينية منتجة وقادرة على اجتياز كل الحواجز والعقبات.
قوة تطوعية
ويعتمد المعرض على القوة التطوعية الوطنية الحاضرة في البلدات، بحيث أقيمت المعارض بالتعاون بين المجموعات الشبابية والشعبية الفاعلة محليًّا في كل مدينة ومنها: مجموعة عكا 5000 في عكا، وجمعية بليبل ومقهى ليوان الثقافي في الناصرة، ومحترف شبابيك وجمعية مركز غزة للثقافة والفنون في غزة.
أما في نابلس، فشارك المنتدى التنويري الثقافي الفلسطيني، ومركز يافا الثقافي، وفي الخليل مشروع مساحات للثقافة والفنون، وشركة فريقك.
بينما شاركت جمعية شباب البلدة القديمة، وجمعيّة الجالية الإفريقية، وبرج اللقّلق من مدينة القدس، فيما شاركت مجموعة ناشطات من مدينة يافا.
وشهدت المعارض المختلفة إقبالاً كبيرة وملحوظاً، ينسجم مع الجهد العظيم الذي بُذل في إتمام "حكايا السوق" وطريقة تقديمها داخل المدن السبع، ليتحول فعلاً كل معرض منها إلى مهرجان فلسطيني فني تراثي ثقافي اقتصادي.
ويثني بدوي على كافة الجهود المبذولة لإقامة هذا المعرض في جميع البلدات الشقيقة، وأن هذه هي فقط البداية في طريق العمل الثّقافيّ الوطنيّ، الوحدويّ والتطوعيّ.
