الساعة 00:00 م
الأربعاء 01 مايو 2024
22° القدس
21° رام الله
21° الخليل
25° غزة
4.67 جنيه إسترليني
5.27 دينار أردني
0.08 جنيه مصري
3.99 يورو
3.73 دولار أمريكي
4

الأكثر رواجا Trending

أطفال غزة يدفعون ثمن الأسلحة المحرمة

معروف: معلبات مفخخة يتركها الاحتلال بمنازل غزة

لحظات تحبس الأنفاس.. عن "باسل" الشهيد العائد إلى الحياة

حجم الخط
الأسير الجريح باسل بصبوص
رام الله - فرح البرغوثي - وكالة سند للأنباء

لحظات قاسية بين تفاصيل الحياة والموت، عاشتها ثلاث عائلات في مخيم الجلزون شمال رام الله، قبل نحو أسبوعين، بعد أن وصلها نبأ استهداف قوات الاحتلال الإسرائيلي لأبنائهم بوابل من الرصاص الحي، عندما كانوا يستقلون سيارة في طريق عودتهم من عملهم، وارتقاء اثنين منهم وإصابة الثالث بعدة رصاصات.

ففي الثالث من شهر تشرين أول/أكتوبر الجاري، استقبلت عائلة باسل بصبوص المهنئين باستشهاد ابنها، وزفّته والدته شهيداً مع رفيق عمره خالد الدَباس، لكنّها لم تكن تعلم أنه سيصلها خبراً، مساء اليوم ذاته، يقلب الصورة رأساً على عقب.

فجر ذلك اليوم، أطلق الاحتلال رصاصه نحو الشُبّان الثلاثة؛ خالد الدباس، وباسل بصبوص، وسلامة شرايعة، واستهدف مركبتهم التي كانوا يستقلونها في ضاحية التربية والتعليم قرب رام الله وأغلق المنطقة، وأعاد فتحها بعد اختطاف جثمانيْ الشهيدين واعتقال المُصاب.

وأعلن المخيم الحداد على روحيْ الشهيدين "بصبوص" و"الدباس"، وسط الهتافات الوطنية، واحتشاد عشرات المواطنين لتقديم التعزية، فيما ظلت أخبار الحالة الصحيّة للمصاب "شرايعة"، من بلدة بيرزيت، طَيّ الكِتمان.

"مطرٌ من الرصاص"..

"باسل" ابن التاسعة عشر ربيعًا، المحبوب والمُدلل لدى عائلته، مُهذبٌ وحنون، يحبُّه كلّ من يعرفه، شابٌ طموحٌ، كما يصفه أقرباءه وأصدقاءه، يعملُ مُكافحاً في مطعم "بيتزا"، أحلامه بسيطة كأيّ شابٍ فلسطيني "منزل وسيارة وحياة كريمة"، لكنّ الاحتلال يستهدف الأحلام ويقتلها قبل اكتمالها.

يروي شقيقه مصطفى بصبوص تفاصيل ما حدث لـ "وكالة سند للأنباء": "قبل صلاة الفجر، ينهي باسل عمله في المناوبة المسائية بالمطعم، ويجتمع مع صديقيه خالد وسلامة، يتناولون طعام العشاء، ثُمّ يوصلون بعضهم البعض، لكن هذه الليلة كانت مُختلفة".

في حينها، سَلَك الشُبّان الثلاثة الطريق الواصل بين بلدتيْ سردا والجلزون، بهدف إيصال باسل إلى منزله أولاً، ثُمّ خالد، وأخيراً يعود سلامة لمنزله، لكنّهم سُرعان ما تفاجؤوا بقوات الاحتلال تُطلق صوبهم الرصاص "كالمطر"، وتحاصر المنطقة دون سابق إنذار، كما روى "باسل" لشقيقه.

ويتابع: "تجمّعنا قبل صلاة الفجر، وضجّ المخيم بنبأ استشهاد خالد وباسل، كان مثل ساحة الحرب، الجميعُ قلقٌ ينتظر الأخبار، حتى تأكّدنا أخيراً بعد صلاة الفجر أنهما استشهدا، وأن سلامة مُصاب".

ويشير "مصطفى" أن عائلته عاشت هذه اللحظات المُرة والصعبة بكافة تفاصيلها، ابتداءً من احتشاد النساء والشبّان أمام منزلهم، والهتاف للشهيد ووالدته، وافتتاح بيت عزاء للرجال في "جمعية تنظيم المخيم"، واستقبال حشودٍ كبيرةٍ من كافة المناطق.

"اتصالٌ هاتفي مُفاجئ"..

وعند صلاة العشاء من اليوم ذاته، حدثَ ما لم يكن بالحسبان، حيثُ بدأت الأخبار تتداول بأن "بصبوص" على قَيْد الحياة، ويتلقّى العلاج في أحد مشافي القدس، وأن "شرايعة" هو الشهيد.

ويُبيّن "مصطفى" أنه في البداية، لم تُصدق العائلة هذه الأخبار، وظنّت أنها روايات كاذبة ينشرها الاحتلال بهدف "اللعب في أعصابهم"، حتى اتصل أحد الأطباء الذين يعملون في مستشفى "شعاريه تسيدك"، بشابٍ من المخيم، وفاجأه بما قاله.

وجاء في الاتصال، أن الطبيب دخل لتفقّد حالة مُصاب بعد أن أجرى عملية في يده وقدمه اليسرى، وحينما نادى عليه بالاسم المُسجل على الملف، وقال له: "سلامة شرايعة.. الحمد لله على سلامتك"، ردّ عليه: "أنا اسمي باسل بصبوص، وصديقي سلامة"، ودار بينهما حديث أدرك الطبيب بعده أن "سلامة" هو الشهيد، و"باسل" جريحٌ معتقل.

حينها طلب الشاب من الطبيب أن يُحضر بعض الأدلة التي تُؤكّد صحة كلامه، حتى لا تموت العائلة مرتين، فأخبره أن "باسل" مُقيّد، ويحيط به أربعة جنود من الاحتلال من كافة الاتجاهات؛ ولا يستطيع أن يلتقط له أيّ صورة، لكنّه سيحاول وسيعاود الاتصال مرةً أخرى.

وبعد منتصف الليل، اتصل الطبيب مُجدّداً على الشاب الذي يجلس في منزل عائلة "باسل"، وسط حالة ترقّبٍ وقلقٍ شديدين، حتى جاءت أخيراً اللحظة "الحاسمة"، كما يخبرنا "مصطفى".

ويزيد ضيفنا: "أحضر الطبيب علامات تدلّ على صحة كلامه؛ مثل اسم والدتي وعُمر باسل وعدد أشقائه"، واصفًا تلك اللحظات بأنها "صعبةٌ جداً، وتعجزُ حروف اللغة عن وصفها".

يصمتُ قليلاً ثُمّ يُردد "أسوأ ما يكون الإنسان في هذه اللحظات، توترٌ وترقّب، أنباءٌ متضاربة ومواقع التواصل الاجتماعي تزيدُ من الإرباك (..) دوامةٌ لها أول وليس لها آخر، لقد عشنا ليلةً صعبةً ونحن ننتظر الخبر اليقين".

وعند سؤاله عن ردّة فعلهم على الخبر، يُجيب بغصّة: "ازداد حالنا حُزنًا، والله على ما أقول شهيد (..) صحيح أنه خبرٌ مُفرحٌ وسعيد، من الموت للحياة؛ لكن رفاق عمره ارتقوا شهداء، بقينا في بيت عزاء خالد ثلاثة أيام، ولم نفرح، تقاسمنا الحزن معًا، فنحنُ أبناء مخيمٍ واحد".

قلبٌ مكلوم وانتظار..

تجلسُ بجانبه والدته عطاف بصبوص، والتي تمكّنت من زيارة فَلذَة كبدها "باسل"، الذي يمكثُ حتى اللحظة في مستشفى "شعاري تسيدك"، بحالةٍ صحيةٍ صعبة.

وتتحدث والدته لـ "وكالة سند للأنباء": "في اليوم الثاني من الحادثة، تمكّنت من زيارة باسل أنا ووالده، بعد معاناةٍ كبيرة، كان مُقيّدًا ولم يُسمح لنّا بزيارته طويلاً، وقد خضع لعمليات في قدمه ويده اليسرى"، لافتةً إلى صعوبة حالة يده.  

29685789-04C0-40DD-A72F-275AE1F900F3.jpeg
 

وعن أول الكلمات التي قالها "باسل" لوالديه، تُجيب "سألني أين خالد، أين سلامة؟"، بدايةً أجابته بأن كلًا منهما يمكثُ على سرير العلاج، وعندما أخبرته أنهما ارتقيا شهيدين إلى جنّات الخلود، بقيّ غير مُصدقاً، ويشعرُ أن ما حدث معهم "مجرد حُلم".

والخميس الماضي، قررت محكمة "عوفر" العسكرية إخلاء سبيل الأسير الجريح "بصبوص"، لتبدأ والدته تُحصي الدقائق والأيام حتى تتمكّن من رؤيته مرةً أخرى، وتغمره بحنانها وتعتني به، فهو صديقها وأُنسها الذي يملأ المنزل عليها بعد أن تزوج  أشقاؤه، كما تقول.

سيعود "باسل" إلى مخيمه، لكن دون أني يلتقي مُجدّداً بصديقيه "خالد" و"سلامة"، أو أن يطبع قُبلة الوداع الأخيرة على جثمانيهما اللذين يحتجزهما الاحتلال، سيحتفظُ في ذاكرته بهذه التفاصيل المؤلمة ولن ينساها مهما مرّت عليه السنوات، وربما لن يعود لعمله مرةً أخرى بسبب سوء حالة يده اليسرى، التي عجزت والدته عن وصفها.