الساعة 00:00 م
الخميس 02 مايو 2024
22° القدس
21° رام الله
21° الخليل
25° غزة
4.71 جنيه إسترليني
5.3 دينار أردني
0.08 جنيه مصري
4.03 يورو
3.76 دولار أمريكي
4

الأكثر رواجا Trending

معاناة الفلسطينيين تتفاقم في ظل غياب نظام وطني لإدارة الكوارث

أطفال غزة يدفعون ثمن الأسلحة المحرمة

بالصور المحرر محمد المقادمة.. 22 سنة كيف مرّت في عتمة الزنازين؟

حجم الخط
المحرر محمدالمقادمة
غزة – مجد محمد – وكالة سند للأنباء

اثنان وعشرون عامًا خلف الأبواب المغلقة، لا يرى فيها السماء دون شِباك تقطع زرقتها، ولا يلمح فيها البدر عن اكتماله كل شهر، لا يمشي على الاسفلت، ولا يداعب طفلًا، ولا يصعد أدراجًا طويلة تنقطع فيها أنفاسه من التعب، أكثر من عقدين من الزمان لم يجلس تحت ظلّ شجرة، أو يركب سيارة، أو دراجة هوائية.

تفاصيل قد تبدو صغيرة، لكنها بنظر الأسرى ومنهم محمد يوسف المقادمة (43 عامًا) من مخيم البريج وسط قطاع غزة، تعني الحياة، فقد اعتقل من على عتبات شبابه عندما كان في الـ 21 من عمره، ويخرج بذات العمر لكن بعد 22 عامًا! فالزمن يتوقف بمخيلة الأسير عند آخر لحظة له في الحرية.

اعتقل المقادمة من مدينة قلقيلية شمال الضفة الغربية في 21 سبتمبر/ أيلول 2001، وحكم بالسجن 22 عامًا بتهمة المشاركة في عمليات المقاومة، وأفرج عنه في 11 أيلول الجاري، ووصل قطاع غزة عبر معبر بيت حانون شمال القطاع.

وللاقتراب أكثر من بقايا السجن العالقة في ذاكرته، حاورت "وكالة سند للأنباء" المحرر "مقادمة"، لتضع يدها على جرحه، ليس إيلامًا، ولكن لتبقى آلام الأسرى حيّة في نفوسنا وغير منسية.

يبدأ ضيفنا حديثه بكلمات تصف الأسر: "السجن محاولة لنزع تلك الإرادة الفلسطينية، التي حاولوا أن يقتلوها، لكن ذلك لم يجدِ نفعاً، سجنونا ولم ينجحوا بسلب إرادتنا، فالسجن كان عبارة عن مرحلة تثبيت لتلك المبادئ التي تنغرس فينا منذ عشرات السنين، فهي ليست وليدة لحظة وإنما كشجرة زرعت على مدار سنوات، إلى أن أصبحت بذات القوة".

381472851_637761131838578_7087707704552576942_n.jpg
 

وجد "مقادمة" نفسه في السجن بين صفحات الكتب والأوراق، يسكب عليها ما يتدفق من عقله من كتابات، لكن ذلك لم يكن كافيًا ليصف بشاعة سلب الحرية من الإنسان وزجه لسنوات طويلة في غياهب السجون، ويردد: "السجن ليس أن أكتبه بتلك الحروف، فهو ليس سينا ولا جيما ولا نوناً، فالسين أحد من السيف، والجيم جبال ثقيلات على صدورنا، والنون كما قال الله عز وجل وأقسم به فهو الثقيل".

ويسرد لنا: "بدأت حياتي بالسجون كأي أسير يجلس في محطة انتظار، لكنني لم أقف عند الانتظار، بدأت أبحث عن العلم والثقافة، تعلمت حتى أنهيت الدراسة الجامعية، لم أكتف بذلك، فأخذت أعزز من تلك الروح التي كنت ولا زلت أنسبها إلى والدي، الذي سبقني بها قبل سنوات وكان يكتب الشعر وكنت طفلاً".

ومن باب الوفاء، كانت أولى كتابات "المقادمة" بعنوان "الراوي الأخير"، الذي كان يخاطب فيه والده الذي توفي وكأنه الشاهد الأخير الذي روى الرواية الفلسطينية وذهب، وتضمن قصيدة بعنوان في "حضرة سيدي في حضرة والدي"، والكثير من القصائد الأخرى.

383283967_609823404432012_7145280818364342194_n.jpg
 

ويضيف: "كتبت في العديد من المجالات، منها العقيدة الإسلامية بعنوان كتاب الفهم الصحيح للإسلام، وكتاب خارج الصورة، وكتبت روايات، وفي التاريخ، كما أن للشعر نصيب من كتاباتي، والذي جمعته في كتاب بعنوان: الهروب نحو الغروب".

وعن الذكريات التي لم تمحها سنوات الحرية بعد 22 عامًا من سلبها، يقصّ علينا "المقادمة": "الأسر يعني تلك الغرف المتلاصقة، وذكريات حفرت بالوجدان يخلدها الأسرى فيما بينهم، كنا نتحدث أننا سنفعل وسنفعل إذا ما التقينا بأهلنا، أحلام مرت وهي ليست أحلام الليل بل هي أحلام اليقظة، كنا نحلم بالنهار وننتظر سنوات، فالسجن عذابات تعرضنا فيه لكل شيء، من حزنٍ وإذلال وقمع وجوع، لكننا لم نفقد الأمل يومًا".

ويشير المقادمة، إلى الأيام التي كانوا يحاولون زراعة الفرح فيها بالمناسبات المختلفة، كالأعياد ورمضان وغيرها، وكيف يحاول الأسرى أن يصنعوا الابتسامة فيما بينهم بجهودهم الفردية، ويتبادلون الأحاديث والأهازيج الشعبية، ويحيون الليالي الإيمانية لينيروا ظلام عتمة الليل ويتحدوا قهر السجان، وفق قوله.

ويردف: "على مدار 22 عاماً، كنت شاهداً على أحداث كثيرة مرت على الحركة الأسيرة، وقلبي وعقلي يسجل تلك المراحل من خلال تجسيدها ببعض الجمل والكلمات، وبعض الكتابات، والكثير من الأشعار".

موت دون وداع أو عزاء..

لم تكن هذه الـ 22 سنة لتمر دون أن تترك جرحًا كبيرًا بأن تخطف من محمد أحد أحبابه، لقد كانت أم "محمد" هي الراحلة في غيابه، لم تسعفها سنوات الانتظار الطويلة، فأغمضت عينيها وهي تحلم باحتضانه، ولم تفتحهما مرة أخرى.

في تلك الليلة زارته أمه في حلمه، يقول لنا: "رأيتها كأنها ميتة، ودخلت عليها الغرفة حتى قالت لي لا تخف فأنا حية، وحضنتها، ثم ارتخت فماتت".

ويكمل: "كنت أعلم أنها مريضة، وأنني سأفقدها في أي وقت، ومع ذلك كنت أحلم باحتضانها، لكن القدر كان أسرع من تحقيق حلمنا".

وعن تفاصيل تلقيه الخبر يخبرنا: "حين جاء الخبر كنت أطهو الطعام للأسرى في الغرفة، شعرت بشيء غريب خارج الغرفة، وفي الغرف التي تقابل غرفتنا، كنت أظن أن هناك مشكلة، وسألت وقالوا لا شيء".

لكنّ من يُكّذب شعور "محمد" في تلك اللحظة، يُكمل: "رأيت الأسرى يقتربون مني، وقبل أن يخبروني بنبأ الوفاة، قلت لهم الله يرحمها (..) أصابهم الذهول من أين عرفت وكيف؟ وفعليًا لم يُخبرني أحد، كان مجرد شعور زارني مصدره السماء".

l8LpF.jpg
 

معاناة بعد معاناة يصفها المحرر المقادمة والذي فقد الكثير من أهله، والشهداء الذين ارتقوا من عائلته مضيفا: "كنت أنظر إليهم من بعيد وأسمع أصواتهم، وآمل أن أراهم لكن القدر اختار وأمر الله نافذ".

وبدموع القهر والحزن، يسهب: "انتظرت والدتي لقائي لسنوات طويلة، كانت دوماً تجهز لي المنزل وتشتري أفضل الأثاث على أمل لقاء قريب، يجمعنا وتفرح بزواجي كما كانت تخبرني دومًا، لكنّ إنه القدر".

وحين يموت أحد أقرباء الأسير تتضاعف معاناته في السجون، "لا عزاء لك فأنت لا تودع، حتى الدموع تشعر أنك فقدتها، حتى صوتك يغيب وأنت وحيد، رغم أن الجميع يحاولون الوقوف معك وإسنادك"، كما يقول.

ويخبرنا: "كنت سأتوقف عن الكتابة عند موت أمي، إلا أني في لحظة صمت وحزن وتأمل، أدركت أن نجاحي ما هو إلا ثمرة من ذكرياتي مع أمي، وأن عزمي وقوتي وإرادتي ما هي إلا امتداد من صبرها وجلدها، فألفت كتابًا لها بعنوان: تجاعيد حسناء".

383596639_1680946935744979_4660446155607218958_n.jpg
 

وبكلماته رقيقة عذبة يتابع المقادمة حديثه "لازلت أحن إلى رائحتها وحضنها، إلى فرحها وحزنها، إلى صمتها وكلامها، أمي لا تفارقني ولن تفارقني، وإن كان الموت ابتلعها بداخله، فلا تزال أرواحنا تلتقي في ملكوته سبحانه إلى مالا نهاية".

فرحة الحرية بغزة..

وبالرغم من كل ما مرّ به في السجون، إلا أنّ فرحة التحرر غمرته منذ اللحظات الأولى التي خطت فيها قدماه على تراب غزة بعد غياب 22 عامًا.

وعن حريته وعودته لغزة يقول: "غزة تعني الصمود والمقامة والشهداء والتضحية، ومنذ أن خطت قدماي أولى خطواتي شعرت كأني أطير فاستقبلني أهلها خير استقبال (..) غزة الأهل والأحباب والمقاومة التي اخضعت الاحتلال وجعلته يتركها وهو ذليل".

383105116_294677766613809_353626160331068789_n.jpg
 

وفي حديثه عن الأسرى الذين تركهم خلفه، يؤكد: "منذ تأسيس الحركة الأسيرة عام 1967، لا تزال هذه الحركة، كما الصاعق تقاتل على جبهة واحدة، وكأنها رجل واحد يقف بالمرصاد في وجه الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة التي تحاول التضييق على الأسرى وفرض عقوبات عليهم".

وجاء في حديثه: "الأسرى ثابتون وهم على أملٍ دائم لا ينقطع بأن يكونوا على موعدٍ قريب مع الحرية، ليلتقوا بأهلهم وأحبابهم".

ويردف: "الاحتلال يرى الأسرى الحلقة الأضعف، ولكننا لا نخضع إلا لله ونقاتل ليل نهار، فلا تخافوا عليهم هم يريدون الإسناد فقط، أما هم فوالله هم خير رجال يقاتلون على كافة الجبهات قدموا الشهداء، ولا زال الكثيرون منهم في ثلاجات الاحتلال كالأسير الشيخ خضر عدنان والأسير ناصر أبو حميد".

أما الأسرى المرضى، فيصف "المقادمة حالهم بالقول: "يقبعون في معتقلات وليست مستشفيات، ويموتون ليل نهار ولا علاج، لكنهم كما عرفناهم لا يخضعون، ويأملون من المقاومة أن تكون وحدها في إطلاق سراحهم".