قالت مجلة فورين أفيرز (Foreign Affairs) إن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) تسجل انتصارا مبهرا في مواجهة حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة في وقت جعلت استراتيجية "إسرائيل" الفاشلة الحركة أقوى.
وأبرزت المجلة في مقال مطول للبروفيسور "روبرت بابي" أن "إسرائيل" لم تستطيع أن تهزم حماس بعد تسعة أشهر من العمليات القتالية الجوية والبرية الإسرائيلية في غزة، كما أنها لم تقترب من قهر الحركة. بل على العكس من ذلك، فإن حماس اليوم أقوى مما كانت عليه في 7 أكتوبر.
وذكر المقال أنه منذ هجوم حماس في أكتوبر الماضي، غزت "إسرائيل" شمال وجنوب غزة بحوالي 40 ألف جندي مقاتل، وهجرت 80% من السكان قسراً، وقتلت أكثر من 37 ألف شخص، وأسقطت ما لا يقل عن 70 ألف طن من القنابل على القطاع (وهو ما يتجاوز الوزن الإجمالي للقنابل التي تم إسقاطها على لندن ودريسدن وهامبورج طوال الحرب العالمية الثانية).
وقد دمرت الهجمات الإسرائيلية أو ألحقت أضرارًا بأكثر من نصف المباني في غزة، وقيدت وصول المنطقة إلى المياه والغذاء والكهرباء، مما ترك السكان بالكامل على حافة المجاعة.
ورغم أن العديد من المراقبين سلطوا الضوء على عدم أخلاقية سلوك "إسرائيل"، فإن زعماء دولة الاحتلال ظلوا يزعمون على الدوام أن هدف هزيمة حماس وإضعاف قدرتها على شن هجمات جديدة لابد أن يكون له الأسبقية على أية مخاوف بشأن حياة الفلسطينيين.
حماس آخذة في النمو
وأكد المقال أنه في مواجهة الهجوم العسكري الإسرائيلي، فإن قوة حماس آخذة في النمو فعلياً. فقد طورت الحركة دفاعها إلى قوة عصابات عنيدة ومميتة في غزة مع استئناف العمليات القاتلة في المناطق الشمالية التي كان من المفترض أن تقوم "إسرائيل" بتطهيرها قبل بضعة أشهر فقط.
وذكر أن الخلل الرئيسي في استراتيجية "إسرائيل" ليس فشل التكتيكات أو فرض قيود على القوة العسكرية - تماماً كما لم يكن لفشل الاستراتيجية العسكرية للولايات المتحدة في فيتنام علاقة تذكر بالكفاءة الفنية لقواتها أو القيود السياسية والأخلاقية حول استخدامات القوة العسكرية.
بل إن الفشل الذريع كان عبارة عن سوء فهم فادح لمصادر قوة حماس. ومما ألحق ضرراً كبيراً ب"إسرائيل" أنها فشلت في إدراك أن المذبحة والدمار الذي أطلقته في غزة لم يؤدي إلا إلى زيادة قوة عدوها.
فعلى الرغم من الخسائر التي تكبدتها حماس، إلا أنها ما زالت تسيطر فعلياً على مساحات واسعة من غزة، والحركة قادرة على العودة بسهولة إلى المناطق التي تزعم القوات الإسرائيلية أنها "طهرتها" سابقًا.
ووفقاً لتقييم إسرائيلي حديث، أصبح لدى حماس الآن عدد أكبر من المقاومين في المناطق الشمالية من غزة، التي اجتاحها جيش الاحتلال في الخريف الماضي مقارنة بما لديها في رفح في الجنوب.
وتشن حماس الآن "حرب عصابات" تنطوي على نصب كمائن وقنابل بدائية الصنع (غالبا ما تكون مصنوعة من ذخائر غير منفجرة أو من أسلحة الجيش الإسرائيلي)، وهي عمليات مطولة قال مستشار الأمن القومي لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مؤخرا إنها قد تستمر حتى نهاية عام 2024 على الأقل.
ولا يزال بإمكان حماس ضرب "إسرائيل"، ومن المرجح أن لدى الحركة نحو 15 ألف مقاتل معبأ، أي ما يقرب من عشرة أضعاف عدد المقاتلين الذين نفذوا هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر.
علاوة على ذلك، لا يزال أكثر من 80% من شبكة الأنفاق تحت الأرض التابعة لحماس صالحة للاستخدام في التخطيط وتخزين الأسلحة والتهرب من المراقبة والاعتقال وصد الهجمات الإسرائيلية.
وخلاصة القول، إن الهجوم الإسرائيلي السريع منذ أكتوبر الماضي قد أفسح المجال لحرب استنزاف طاحنة من شأنها أن تترك لحماس القدرة على مهاجمة الإسرائيليين حتى لو واصل الجيش الإسرائيلي حملته في جنوب غزة.
مصادر القوة
وأكد المقال أنه بالنسبة لحماس فإن المصدر الرئيسي للقوة ليس حجم الجيل الحالي من المقاومين، بل قدرتها على كسب المؤيدين من المجتمع المحلي في المستقبل.
وقال إن قوة حركة مقاومة مثل حماس لا تأتي من العوامل المادية النموذجية التي يستخدمها المحللون للحكم على قوة الدول بما في ذلك حجم اقتصادها، والتطور التكنولوجي لجيوشها، ومدى الدعم الخارجي الذي تتمتع به، والقوة العسكرية التي تتمتع بها.
فبدلا من ذلك، فإن المصدر الأكثر أهمية لقوة حماس هو القدرة على التجنيد، وخاصة قدرتها على جذب أجيال جديدة من المقاومين المستعدين أن يموتوا من أجل قضيتهم.
وهذه القدرة على التجنيد متجذرة، في نهاية المطاف، في عامل واحد: حجم وشدة الدعم الذي تستمده الحركة من مجتمعها.
وإن دعم المجتمع يسمح للحركة بتجديد صفوفها، واكتساب الموارد، وتجنب الكشف عنها، وبشكل عام، الحصول على مزيد من الموارد البشرية والمادية اللازمة لتعبئة ومواصلة عمليات المقاومة.
وذكر المقال أن دعم المجتمع المحلي ضروري لتعزيز عبادة الاستشهاد. ومن غير المرجح أن يتطوع الناس في المهام عالية المخاطر إذا مرت تضحياتهم دون أن يلاحظها أحد.
وإن المجتمع الذي يكرم المقاومين الذين سقطوا في صفوف حركة مقاومة يساعد في الحفاظ عليها؛ فالاستشهاد يضفي الشرعية على المقاومة ويشجع المجندين الجدد.
وبحسب المقال تساعد هذه الديناميكيات في تفسير بقاء حماس في السلطة في حربها مع "إسرائيل". ولتقييم القوة الحقيقية للحركة، يجب على المحللين أن يأخذوا في الاعتبار الأبعاد المختلفة للدعم الذي تحظى به بين الفلسطينيين.
وتشمل هذه شعبيتها مقارنة بمنافسيها السياسيين، ومدى نظر الفلسطينيين إلى النهج المقاوم الذي تمارسه حماس ضد الإسرائيليين باعتباره مقبولاً، وعدد الفلسطينيين الذين فقدوا أفراداً من عائلاتهم في الهجوم العسكري الإسرائيلي المستمر لغزة.
تصاعد شعبية حماس
أبرز المقال أن استطلاعات الرأي الفلسطيني تساعد في تقييم مدى الدعم المجتمعي لحماس. فقد قام المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، وهو منظمة استطلاعية تأسست عام 1993 بعد اتفاقيات أوسلو وتتعاون مع المؤسسات الإسرائيلية، بإجراء مقابلات مع النازحين في أماكن مؤقتة.
وكشف الاستطلاع عن تزايد الدعم السياسي لحماس، خاصة بالمقارنة مع منافسيها. على سبيل المثال، على الرغم من أن حماس ومنافستها الرئيسية، فتح، تمتعتا بمستويات دعم مكافئة تقريبًا في يونيو 2023، إلا أنه بحلول يونيو 2024، تضاعف عدد الفلسطينيين الذين دعموا حماس (40 في المائة مقارنة بـ 20 في المائة لفتح).
ولم يؤد القصف الإسرائيلي والغزو البري لغزة إلى تراجع التأييد الفلسطيني للهجمات ضد الإسرائيليين، ولا إلى تراجع التأييد لهجوم 7 أكتوبر نفسه بشكل ملحوظ.
وفي مارس/آذار 2024، اعتقد 73% من الفلسطينيين أن حماس كانت على حق في شن هجوم 7 أكتوبر.
وهذه الأرقام مرتفعة للغاية، ليس فقط بعد أن أدت الهجمات إلى تحفيز الحملة الوحشية الإسرائيلية، ولكن أيضًا في ضوء حقيقة أن عددًا أقل، 53 بالمائة، من الفلسطينيين أيدوا الهجمات المسلحة على الإسرائيليين في سبتمبر 2023.
وبحسب المقال تحظى حماس بلحظة "الاحتشاد حول العلم"، مما يساعد في تفسير سبب عدم قيام سكان غزة بتقديم المعلومات الاستخبارية للقوات الإسرائيلية حول مكان وجود قادة حماس والأسرى الإسرائيليين.
ويلاحظ أن الدعم للهجمات المسلحة ضد الإسرائيليين قد ارتفع خاصة بين الفلسطينيين في الضفة الغربية، وهو ما يتساوى الآن بحق مع مستويات الدعم العالية المستمرة لهذه الهجمات في غزة، مما يدل على أن حماس حققت مكاسب واسعة النطاق في المجتمع الفلسطيني منذ أكتوبر.
ومن المؤكد أن العقوبة الهائلة التي فرضتها "إسرائيل" على غزة تدفع العديد من الفلسطينيين إلى الشعور بمزيد من العداء تجاه الدولة اليهودية.
وفسر المقال بأنه "ليس أمام الشعب الفلسطيني خيار سوى القتال لأن (إسرائيل) عازمة على ارتكاب فظائع لا توصف ضد جميع الفلسطينيين حتى لو لم يشاركوا في عمليات عسكرية؛ وتحت قيادة حماس يستطيع الفلسطينيون هزيمة (إسرائيل) في ساحة المعركة".
لا يوجد حل عسكري لهزيمة حماس
وخلص المقال إلى أنه بعد تسعة أشهر من الحرب الدموية، حان الوقت للاعتراف بالحقيقة الصارخة: ألا يوجد حل عسكري فقط لهزيمة حماس.
وذكر أن حماس حركة سياسية واجتماعية جوهرها المقاومة، ولن تختفي في أي وقت قريب. فيما الاستراتيجية الإسرائيلية الحالية المتمثلة في العمليات العسكرية المكثفة لا تؤدي إلا إلى تقوية الروابط بين الحركة والمجتمع المحلي.
وطيلة تسعة أشهر، واصلت "إسرائيل" تنفيذ عمليات عسكرية غير مقيدة تقريباً في غزة، ولم تحقق إلا قدراً ضئيلاً من التقدم الواضح نحو تحقيق أي من أهدافها.
وقال المقال إن حماس لم تُهزم ولا هي على وشك الهزيمة، وقضيتها أصبحت أكثر شعبية وجاذبية أقوى مما كانت عليه قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
وأضاف أنه في غياب خطة قد يقبلها الفلسطينيون لمستقبل غزة والشعب الفلسطيني، فإن المقاومة سوف تستمر في الإبقاء على هذه الخطة وعناصرها يعودون وبأعداد أكبر.
وتابع "لكن لا يبدو أن القادة الإسرائيليين أصبحوا أكثر استعداداً لتصور مثل هذه الخطة السياسية القابلة للتطبيق ولا تلوح في الأفق نهاية تذكر للمأساة المستمرة في غزة وهو ما يعني تزايد التهديد ل"إسرائيل" وكيانها".