كتب على الفلسطيني أينما حلّ في أصقاع الأرض، أن يعيش مرارة الهجرة والاغتراب، ولكن الاحتلال كتب على الفلسطيني عبد الله يوسف (30 عامًا)، أن يتجرع غُربة مضاعفة، كانت الأولى عندما هاجر القطاع بحثا عن عمل، والأخرى بقتل الاحتلال الإسرائيلي عائلته وتركه وحيدا في غربته.
ورحلت عائلة "يوسف" في الثالث من شهر نوفمبر/ تشرين ثاني بعد قصف منزلهم، دون أن يطبع على جبينهم قبلة الوداع، تاركا إياه غارقا بين حسرة الغربة والفراق.
وعن تفاصيل الفاجعة التي يتجرع مرارتها في غربته، يروي "يوسف" حكايته لـ "وكالة سند للأنباء"، ويقول: "أبي الغالي الحنون الكريم، أمي أقرب الناس إلى قلبي، شقيقتي هبة وابنتيها فرح وريما، أخي الصغير أحمد، شقيقتي الصغيرة إيمان صاحبة أطيب قلب، زوجة أخي وأولادها الثلاثة، عمي رياض وابنه الوحيد محمد، عمتي وأولادها الاثنين عبد الله وعبد الرحمن، بيت أهلي وأغلى الذكريات جميعهم ذهبوا وتركوني وحيدا".
ويتابع: "في عام 2012 هاجرت من مدينة غزة باتجاه تركيا لأجد فرصة عمل لي في ظل تفشي البطالة في القطاع المحاصر، حاولت إيجاد فرصة عمل بغزة ولكن 4 سنوات من البحث دون جدوى أجبرتني على الهجرة، وترك عائلتي".
يصمت قليلًا في حضرة الذكريات التي تمر ثقيلة في مخيلته، ويكمل: "كنا عائلة مترابطة تجمعنا المحبة والأخوة، رغم سفري وبعدي عنهم إلا أنني لم أشعر بالغربة، كان لدينا موعد يومي نجتمع فيه جميعا في مكالمة فيديو عبر الانترنت، نتبادل فيه الأحاديث".
أصرت والدة "يوسف" على تزويجه من فتاة من مدينة غزة، كي "تؤُمن عليه"، كما تقول أمهات القطاع المكلوم عادة، فسافرت إليه قبل عام وزفّت إليه عروسه وودعته ولم تكن تعلم أنه الوداع الأخير.
ويشير ضيف سند والدموع تخنق صوته: "لم أكن أعلم أنه اللقاء الأخير مع أمي، لم أشبع منها، لم ترَ طفلتي التي ولدت قبل الحرب بشهرين، وعدتها أن آتي لزيارتها رفقة زوجتي وابنتي في شهر أكتوبر، بمدينة غزة، ولكنها لم تنتظرني.. راحت".
وعن ذكرياته مع عائلته يسرد "يوسف":" صادف 15 فبراير الماضي ذكرى ميلاد أخي الصغير أحمد، لم يسمح له الاحتلال أن يُقيم حفلة أو أن يتمنى أمنية كما المعتاد، حيث يبدأ صباح يوم ميلاده بالتهاني له على مجموعة العائلة على الواتس وتبدأ طلبات حمود وأحلامه".
"السنة الماضية كانت طلبات أخي أحمد لعيد ميلاده مضحكة، اشتهى لأول مرة أن يتذوق طعم الأرنب والبطة، وفعلا اشترت له أمي أرنبا وطبخته له، بينما عزمته أختي هبة على البطة" يقول "يوسف".
أما عن والده الذي استشهد في 18 نوفمبر ملتحقا بعائلته وهو يحاول إسعاف شاب أصيب برصاص قناص للاحتلال، حينما اقتحم الاحتلال مدينة غزة، فيقول "يوسف":" أبي لم يتأخر ولا مرة ولا لحظة عن مساعدة الناس ونقل الجرحى والشهداء بسيارته للمستشفى".
ويتابع: "أتخيل صورة والدي بوجوه كل شخص يمر بالشارع، صورته ما بتغيب عن بالي ولا دقيقة، عمره ما تأخر عن وجوده بجوارنا بكل وقت وبكل تفاصيل حياتنا، لا قلبي ولا عقلي قادرين يستوعبوا الصدمة".
رحلوا بغمضة عين..
ولا تزال ذكريات الشاب المكلوم مع شقيقته "هبة" (23 عاما)، حاضرة أمامه وكأنها كانت بالأمس، حيث استشهدت شقيقته برفقة ابنتيها، بعدما جاءت من دولة قطر لزيارة أهلها في شهر يوليو/ تموز الماضي.
ويروي لنا: "دائما أفكر أن هبة لا تزال موجودة بغزة، وراح ترجع تسافر، وأرن عليها وأتفق معها متى سننزل سويا لزيارة عائلتي.. كلهم راحوا بغمضة عين".
"أما أختي إيمان خطبت شاب من خارج القطاع قبل أسبوع من بداية الحرب، كنا فرحانين فيها، كانت مميزة بكل شيء، أنيقة مؤدبة، اشتقت لهم جميعا.. ما ضل عيلة ولا حتى بيت".
وتسببت حرب الإبادة الجماعية التي تشنها "إسرائيل" على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/ تشرين أول 2023 بمحو عائلات كاملة من السجل المدني، بعد استهدافها لمنازل المواطنين المأهولة بشكل مباشرة.
وارتفعت حصيلة العدوان الإسرائيلي على القطاع إلى 40 ألفًا و939 شهيدًا، بالإضافة 94 ألفًا و616 جريحًا، وفق آخر معطيات رسمية نشرتها وزارة الصحة أمس السبت.