" بدي أبويا.. والله إذا مات أبويا بموت وراه.. شفت أبويا؟".. ليست لفظاً مجازياً إنما عبارة مُزجت بحرقة قلب وفقد تعرض لها طفل من قطاع غزة جراء استهدافه وعائلته قبل أيام، لكنها ليست المرة الأولى التي يتلفظ أطفال غزة بعبارات الوداع، فحرب شارفت على إتمام عام، لم تترك في قلوب الصغار إلا نُدوباً أشدها لحظات الوداع الأخير(..)
وقالت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسيف" في تصريحات لها، إن "كل أطفال قطاع غزة تقريبا البالغ عددهم مليونا يحتاجون إلى مساعدة على صعيد الصحة النفسية، في مقابل نصف مليون قبل بدء الحرب في السابع من تشرين الأول/اكتوبر".
وبيَّنت أن الأطفال "تظهر عليهم أعراض مثل مستويات عالية من القلق المستمر، وفقدان الشهية، ولا يستطيعون النوم، ويعانون من نوبات انفعالية أو ذعر في كل مرة يسمعون فيها قصفا أو يشاهدون فقداً".
فقد مقدرته على النطق..
وكحال الطفل الصغير خالد الشمالي الذي لم يتجاوز عمره الثامنة، كان محاصراً رفقة عائلته في مدرسة الشيخ زايد من طائرات "كواد كابتر"، حيث أصيب والده على مدخل الفصل، وبقي ينزف حتى اليوم التالي، إلى أن استشهد أمام نظر طفله.
وبسبب الحصار المستمر اضطرت العائلة لكسر بلاط الصف ودفن جثة والدهم، إلى أن تمكنوا من الخروج بعد أسبوعين ودفنه في مكان آخر.
وأثَّرت هذه الحادثة على الطفل "خالد"، بفقده القدرة على الكلام، بعد أن كان طليقاً فصيحاً في سن مبكرة (..)، وفقاً لتصريحات خاصة حصلت عليها "وكالة سند للأنباء".
"مكويَّة يابا"..
" يابا مكوية في نار في قلبي منهم.. خلص مش حنشوفك طول العمر خلص؟"، مَن منا لم تذرف عيناه أمام هذا المشهد؟ ومَن لم يتوقف ولو لبرهة أمام طفلٍ صغير يستصرخ عائلته التي فارقت الحياة إلى الأبد؟، لحظات تعصف بالأطفال لتبقى آثارها النفسية عمراً طويلاً (..)
ورصدت "وكالة سند للأنباء" في إطار متابعتها الخاصة، عدداً من مقاطع الفيديو المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي للحظات الوداع الأخير التي تخترق صفوف الأطفال، مخلفةً آثاراً نفسية مٌمدِّرة.
وحذرت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، من الأضرار النفسية التي يتعرض لها أطفال قطاع غزة، ومعاناتهم من صدمات وفواجع يومية نتيجة الحرب الإسرائيلية المستمرة على القطاع المحاصر.
ماذا عن لحظات الوداع الأخير؟
وفي إطار متابعتها، وقفت "وكالة سند للأنباء" أمام عدة آراء مختلفة حول اللحظة الأخيرة والصورة الختامية التي تُطبع في أذهان الأطفال عن آبائهم الشهداء.
بعضهم يرى أنها لحظات تفوق المقدرة البشرية، ولا تتمالك الأم نفسها أمام جثمان زوجها الشهيد فلا تدرك ما تفعله هي وأطفالها.
وآخرون رأوا أن منع الأطفال من رؤية آبائهم مدرجين بدمائهم، هو الحل الأمثل لمنع الأثر النفسي الممتد مدى العمر.
الشاب أحمد أبو سلطان يقول معقباً في صفحته على مواقع التواصل الاجتماعي: "ما زلت أذكر من 30 سنة صورة والدي الشهيد وهو ملطخ بالدماء عند تشييعه من داخل البيت".
أما الناشطة يسرى العكلوك فترى أن "وقفة الطفل أمام جثمان والده يبقى أثرها النفسي في طفلك مدى العمر، اجعلي من الصورة الأخيرة لوالد أطفالك وهو مرتاح مبتسم، وليس جثة هامدة".
ولم تختلف السيدة هبة القريناوي في رأيها عنهم، لكنها تضيف " أولادي ما ودعوا والدهم لكن شاهدوا أشلاءه مجموعة في كيس بلاستيكي، بحُكم وجودنا في المكان بعد القصف مباشرة".
وعن صورة الوداع الأخير تقول إيمان أبو كميل " دائماً كنت مقتنعة بفكرة عدم رؤية الأطفال لوداع الشهداء، لكننا حُرمنا القرار حتى في الوداع، وما حدا فينا قدر يودعه" (..)