تطفئ آلة الحرب الإسرائيلية كل يوم ما تبقى من وهج الحياة لدى أهالي قطاع غزة المنكوب، ومع محاولاتهم المتكررة بالبقاء على قيد الحياة، تترصدهم وحشية الاحتلال، فتقتلهم مع أحلامهم، وتبيد كل فرحة حاولوا صنعها رغم الموت الذي يملأ المكان حولهم.
حكاية الشابة "العروس" أسماء كامل الرنتيسي (20 عاماً)، واحدة ممن اقتلع الاحتلال الإسرائيلي فرحتها وأباد أحلاهما بتكوين أسرة رغم الحرب والدمار، لترحل في غارة إسرائيلية على مخيم البريج وسط قطاع غزة منتصف شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، هي وزوجها وجنينها الذي لم يتجاوز خمسة أشهر في أحشائها.
رحلت "دلوعة البيت"..
ما أشد لوعة أن تسمع كلمات الفراق من أُم مكلومة، إذ تروي السيدة هناء الرنتيسي "أُم محمد" والدة الشهيدة أسماء، لـ "وكالة سند للأنباء"، بعضاً من تفاصيل القصة وكثيرٌ من صمتٍ حزين.
تقول "أم محمد" إن ابنتها التي كانت تحب والديها وإخوتِها كثيراً، كانت تطمح لإكمال تعليمها في الجامعات الفلسطينية، وتتزوج وتُكوِّن أسرةً تفيض بالحنان والرحمة، لكن الاحتلال قضى على هذا الحلم.
"دلوعة البيت، حبيبة أبوها وأُمها"، بهذه الكلمات الحانية تصف أم محمد، شهيدتها "أسماء"، مُردِفةً: "كانت تتمنى أن تُسعد أهلها وتُحقق لهم ما يتمنوا، كما أنها كانت تؤثرُهُم على نفسها".
وتضرب ضيفتنا مثلاً لذلك في إحدى ليالي الحرب الموحشة: "في أول الحرب كانت أسماء تنام على الأرض في سبيل إعطائي الفرشة الوحيدة التي نملكها، حتى أنام عليها وأكون مرتاحة، كان نفسها تُخرجنا من غزة حتى لا تفقد أحداً منا، لكننا فقدناها"(..)
زفاف دون عرس..
"أسماء" ليست الشهيدة الأولى لأُم محمد، فقد فقدت قبلها بكرها "مُحمد" في 14 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ولم تكن تعلم أنها على موعدٍ مع فقد جديد بعد عام وشهر في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 لتلحق "أسماء" بأخيها.
تصف لنا " أُم محمد" مشاهدًا من صبر "أسماء"، "نزحنا من الشمال للوسطى مشياً وصَبَرت، وأول ما وصلنا تلقينا خبر استشهاد أخيها محمد وصَبَرت، ونزحنا إلى مدينة رفح ولم يكن لدينا مكان نجلس فيه ولا طعام نأكله ومع ذلك صَبَرَت".
وبعد 7 أشهر من المكوث في رفح، تكرر سيناريو النزوح مجدداً، إلى البريج ثم إلى دير البلح، تلاها عودة إلى مخيم البريج مرة أخرى".
أما عن أمنية "أسماء" بتكوين عائلة، تروي والدتها:" تزوجت أسماء دون عُرس، وعاشت في غرفة من ألواح الزينكو دون عفش، وحملت جنيناً وعانت من ضعف الدم وقلة الغذاء، كانت تتمنى أن تأكل أصنافاً من الطعام لكنها لم تكُن متوفرة بسبب الحصار والحرب، لكنها كانت راضية، لا تتلفظ إلا بـ الحمد لله على كل حال".
قتلوا فرحتها..
وعن ابتهاج "أسماء" بزواجها رغم الحرب، تقول والدتها: "لم تكن تسع الفرحة قلب أسماء، كانت تدون جميع التفاصيل في مذكراتها، بدءاً بتاريخ رؤية زوجها لها، ثم قراءة الفاتحة، ويوم عقد القِران".
وككُلِّ شابة تحلُم أن تصيرَ أُماً يوماً ما، كانت بهجة أسماء بمعرفتها بحملها جنيناً، كأنها تملك الدنيا بما فيها، كما أنها وثقت رد فعل زوجها بفيديو عندما علِم أنهُ سيُصبح أبَاً، وكانت توثق جميع أيام الحمل التي مرَّت، وفقاً لما روته "أم محمد".
وقبل استشهادها بأيام، تخبرنا "أم محمد" أن ابنتها أسماء كانت تشعر باستشهادها، حتى أنها سجلت مقطعاً لوالدتها وهي تسألها، "ماذا لو استشهدت"، وبالفعل رحلت "أسماء"(..)
تستذكر "أم محمد" خصال ابنتها وتحدثنا: "كانت تتمنى أن تعيش مع عائلتها بأمان وحُب، كما كانت تصبرني كثيراً وتواسيني، وتحاول تخفيف همومي، أسماء تُحب كل الناس، وتلتمس الأعذار للجميع، وتكره الغيبة والنميمة وتنهى عنها، روحها حلوة وضحكتها جميلة، كل من رآها أحبها ولديها قبول عند جميع من يعرفها".
مغتربة دون وداع أخير..
إيمان الرنتيسي، الأُخت المغتربة لأسماء وتكبرها بـ17 عاماً، تبدأ حديثها لـ "وكالة سند للأنباء"، "أنا مَن أسمت أختي بهذا الاسم، وكان آخر عهدي بها وهي ذات الـ 6 سنوات، سافرتُ وعُدتُ بعد 10 سنوات من الغربة، عشتُ معهم 50 يوماً واغتربتُ من جديد".
تقول "إيمان" إن تواصلها مع عائلتها كان بشكل دائم من خلال وسائل التواصل، ويتشاركوا معاً تفاصيل الحياة.
"لا أنسى طلة أسماء بالثوب الفلسطيني يوم نتائج الثانوية العامة، كانت مثل الملاك"، بهذه الكلمات تُعبر "إيمان"، وتضيف قائلةً: "ما أصعب الكلمات، فلا توصف مرارة فقدان أخٍ أو أخت، كأنهم جزء من القلب فُقِد، وأنا فقدتُ كليهما".
وبوداع مُبطَّن، فقد تحدثت إيمان مع أختها الشهيدة مكالمة مطولة قبل استشهادها بيوم واحد، وفي نفس الساعة التي قُدِّر أن تستشهد فيها، والمُدهش أنها أسماء تحدثت مع أخواتها المتبقيات في شمال قطاع غزة في نفس اليوم واللحظات، وكأنها تودعهم!
وتُردف "إيمان"، "تركتنا خلفها، ولسان قلبنا يلوم نفسه، لو كنا نعلم أنها اللحظات الأخيرة، لما أضعنا دقيقة دون أن نتحدث معها فيها، ونتلوا عليها كلمات قلوبٍ مفارِقة لم تشبع من أحبتها".
وبكلمات حزينة سطرتها لنا ضيفتنا: "ما قدرت أوصلها وأحضنها بقلبي لآخر نَفَس، ما ودعتها ولا ودعت أخوي محمد، وما فرحت فيها، وأهلي في النزوح، وأختي بالشمال محاصرة، وأنا مغتربة وددتُ لو أجمعهم تحت ذراعي".