الساعة 00:00 م
السبت 26 ابريل 2025
22° القدس
21° رام الله
21° الخليل
25° غزة
4.83 جنيه إسترليني
5.11 دينار أردني
0.07 جنيه مصري
4.12 يورو
3.62 دولار أمريكي
4

الأكثر رواجا Trending

بترت صواريخ الاحتلال ساقها.. صابرين وتامر ينتصران لحبهما رغم جراح الحرب

وسط الرماد.. مبادرات التفريغ النفسي تحيي أرواحًا أنهكها الرعب في غزة

حوار خاص مع أحد أبطال "نفق الحرية" المحررين..

بالفيديو والصور محمد العارضة من زنازين الاحتلال إلى حضن الأم.. الحرية لحظة تُنسيك عمرًا من العذاب

حجم الخط
الأسير المحرر محمد العارضة
جنين - إيمان شبير - وكالة سند للأنباء

في السادس من سبتمبر/ أيلول 2021، سطر محمد العارضة (43 عامًا) من بلدة عرابة جنوب مدينة جنين شمالي الضفة الغربية، ورفاقه فصلًا جديدًا في ملحمة الإرادة الفلسطينية، حين حفروا بأيديهم نفقًا تحت سجن "جلبوع" شديد التحصين، ليسلكوا طريقًا نحو الحرية، ولو لخمس أيام فقط، لم يكن ذلك الهروب مجرد كسر لقيد حديدي، بل إعلان صاخب بأن الروح الفلسطينية لا تُقهر مهما اشتدت القيود.

"الخمس أيام إللي كنت فيهم حر، أغنتني عن سنين عمري في السجن"، قالها محمد وهو يتنفس هواء الحرية في سهل مرج بن عامر لأول مرة منذ 23 عامًا، حيث التهم أول حبّة صبر من أرض وطنه، في تلك اللحظات، كان إيمانه راسخًا بأن النصر آتٍ لا محالة.

لكن الاحتلال عاد ليقف في طريقه، كما كان في كل مرة، ليعتقله مرة أخرى بعد تلك الخمس أيام، إلا أن إرادة محمد العارضة لم تنكسر، ومع صفقة "طوفان الأحرار"، تحقق وعد التحرير الذي طال انتظاره، ليعود إلى أرضه وأهله، مُشرقًا كالشمس بعد طول غياب.

اعتقل محمد العارضة في 16 مايو/ أيار 2002، بعد محاصرة مكان اختبائه في مدينة رام الله، ليصدر بحقه حكم بالسجن المؤبد ثلاث مرات إضافة إلى عشرين عامًا، بتهم الانتماء إلى سرايا القدس والمشاركة في عمليات مقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي.

آنذاك، وبعد سنوات من الأسر، حاول العارضة الهروب من سجن "شطة" في 2014 عبر حفر نفق، مما أدى إلى نقله إلى العزل الانفرادي، وفي عام 2021، تمكن مجددًا من الهروب من سجن "جلبوع" رفقة خمسة من رفاقه، لكن الاحتلال أعاده إلى السجن بعد خمسة أيام فقط، ورغم سياسة العزل والتنكيل التي مورست ضده، استمر العارضة في صموده، ليصبح مؤلفًا لعدة كتب تتناول قضايا الجهاد والإسلام، من أبرزها "فقه الجهاد" و"الرواحل".

whatsapp-image-2021-09-06-at-6-51-13-am-1630900314.jpeg

في ضوء التجربة الفريدة التي خاضها الأسير المحرر محمد العارضة، والذي سطع اسمه بعد عملية هروبه البطولية من سجن جلبوع في سبتمبر 2021، كان لا بد لـ "وكالة سند للأنباء" أن تستمع له في حديثٍ خاص بعد تحرره من صفقة "طوفان الأحرار".

وتحرر "العارضة" في 25 يناير 2025 الماضي، ضمن الدفعة الثانية من صفقة تبادل الأسرى بين حركة حماس و"إسرائيل"، والتي شملت 121 أسيرًا من المحكوم عليهم بالمؤبد و79 من أصحاب الأحكام العالية.

في بداية حديثه، عاد محمد العارضة بنا إلى تلك اللحظات التي حملت بين طياتها أمل الحرية وصراع البقاء، في محاولة لفهم كيف كانت أيامه الأخيرة في السجن، وما الذي دفعه للقيام بذلك العمل البطولي الذي جعل منه رمزًا للأسرى الفلسطينيين.

يستعيد "العارضة" ذكرياته عن ذلك النفق الذي لم يكن مجرد حفرة في الأرض، بل بوابة نحو الأمل، يقول العارضة: "كانت فكرتنا أن نصل إلى أمهاتنا قبل أن يأخذهن الموت منا، أردنا أن نرى وجوههن بعد سنوات غيّبنا فيها السجن."

يمتلئ صوته بالعزم وهو يتحدث عن معنى الحرية: "أن تعيش لحظة واحدة حرًّا يُساوي عمرًا كاملًا في العذاب، تلك الأيام القليلة التي عشتها خارج القضبان كانت كافية لتُنسي سنوات طويلة من الأسر."

ويتابع "العارضة" حديثه عن العودة إلى تراب الوطن: "ما زلت لا أصدق كيف انتقلت من مساحة ضيقة لا تتسع سوى لجسدي إلى فضاء مفتوح بلا حدود، أكلت أول حبة لوز منذ سنوات طويلة، كانت صغيرة وبعيدة عن موسمها المعتاد، لكنها كانت الألذ في حياتي."

يتذكر أيام العزل القاسية ويقول: "العزل لم يكن سجنًا فقط، بل عقوبة إضافية، كنا نتعرض للضرب بشكل متكرر، ومع ذلك كانوا يرفضون علاجنا، حتى في الأيام الأخيرة قبل التحرر، حاولوا كسر إرادتنا بحرماننا من النوم وتعمد إيذائنا نفسيًّا".

ورغم كل ما واجهه، يختتم العارضة حديثه بثقة لا تعرف الانكسار: "كنت أعلم أنني سأعود يومًا لأكمل ما بدأته صغيرًا؛ فلاحًا في أرضي، وها أنا اليوم أعود لأزرع فيها أحلامي من جديد."

العلاقة مع والدته..

محمد العارضة.jpg

من بين تلك الجدران الباردة، كانت والدته هي الحبل الذي يربطه بالحياة، تمده بالقوة وتثبت جذوره في أرض لا تخضع للزوال، "كانت أمي هي مصدر قوتي، هي التي زرعت فيّ الأمل، كانت كل شيء بالنسبة لي، وجعلتني أشعر أنني سأظل صامدًا مهما طال الوقت".

وعن والدته التي انتظر حضنها طويلاً، يقول: "هي سيدة عظيمة، رغم حنانها الذي يظهر في كلماتها اللطيفة وأغانيها البسيطة، في الليلة الأولى رتبت لي السرير لأنام براحة، لكنها لم تعرف أنني كنت أحتاج فقط إلى أن أنام بجانبها."

أما عن الأصدقاء الذين شكلوا جزءًا من تلك الرحلة القاسية، يبرز في حديثه الأسير محمود العارضة، الذي لا ينفصل عن قلبه مهما مر الزمن، يبقى محمود هو الأقرب والأحب وفق تعبيره: "رغم جدالاتنا المستمرة، كان محمود دائمًا الأقرب لي، وأعلم أنه يحبني كما أحببته، كنا معًا في كل شيء، في الفرح والحزن، في الصمت والصراع"، علاقة مليئة بالألم والحب، لكنها كانت تملأه بالطمأنينة والأمل، فوجود محمود كان بمثابة صخرة يستند إليها.

ثم يأتي الحديث عن القائد زكريا زبيدي، وهو شخصية كانت جزءًا لا يتجزأ من رحلة المعاناة والأمل، يصفه محمد بعاطفة عميقة، قائلاً: "علاقتي بزكريا ليست علاقة عابرة، بل هي علاقة نضال طويل وشاق، عرفته منذ عام 2002، وكانت تربطني بعائلته الكريمة علاقة متينة، عائلة قدمت للشعب الفلسطيني الكثير".

"العارضة"، لا يكتفي بوصف العلاقة مع زكريا على أنها علاقة نضال، بل يعتبره أحد أصدقائه المقربين، ورفيق درب في المصاعب، "عشنا معًا لحظات لا تنسى، من الملاحقة إلى الهروب، من الأمل في الحرية إلى العودة للسجن، وكل تلك اللحظات شكلت لنا مدرسة حقيقية في النضال."

وبينما يتحدث عن الآمال التي كانت تعيش في قلوبهم، يتذكر لحظة تلقّيهم خبر صفقة التبادل، يكشف عن مشاعره قائلاً: "حين سمعنا التصريح عن صفقة تبادل الأسرى، بدأنا نعيش على الأمل، كان الحديث عن صفقة لتبادل 3000 أسير يحمل لنا نوعًا من التفاؤل، خاصة بعد تلك الفترة الطويلة التي قضيناها في السجون"، ومع ذلك، فإن الواقع سرعان ما عكَّر صفو تلك الآمال، حيث جاءهم الخبر بأنهم سينقلون إلى مكان آخر.

وفي لحظة فاصلة، اقتحمت قوات الاحتلال السجن ليقتادوه مع رفاقه إلى مكان غير معلوم، يصف تلك اللحظات بتفاصيل حية، قائلًا: "لقد تعرضنا لأسوأ أنواع التعذيب والضرب، كانت كل أشكال العنف تُمارس علينا في ذلك اليوم، وكانت الكلاب المدربة تُهاجمنا، لكن، رغم كل شيء، كنا نعلم أن هذه اللحظات هي بداية النهاية"، ذلك اليوم الذي حُقّ فيه حلم الحرية، كان على الرغم من قسوة الظروف، بداية لانفراج قريب.

روتين السجن..

وبينما يعيش الأسرى بين جدران السجون، كانت القراءة والكتابة هما السلاح الذي يحارب به "العارضة"، يملأ وقته بالتثقيف والتعلم، "كنت أملأ وقتي بالقراءة والكتابة، وأتابع الجرائد وأشاهد البرامج السياسية، كان لدي دائمًا أمل أنني سأتخلص من هذا الأسر في يوم من الأيام"، هذا الإيمان العميق كان يرافقه طوال رحلته، يؤمن أن الحرية قادمة رغم كل الموانع: "الفلسطيني دائمًا ما يكون لديه أمل، وأنا متأكد من أنني سأتخلص من هذا الأسر في النهاية."

لحظات ما بعد التحرر الثاني..

image-1737894840.webp

كشف محمد العارضة عن لحظات حاسمة بعد تحرره من السجون، لحظات مليئة بالحب والتوتر والدهشة، أول من التقى به بعد تحرره كان طه شحادة، ابن شقيقته من مدينة القدس، لم يكن "العارضة" يريد أن يتعرف عليه أحد في تلك اللحظة، بسبب الأوجاع التي كان يعاني منها في ظهره، خوفًا من أن يرفعوه فيتعرف عليه الناس، كان يريد أن يظل بعيدًا عن الأنظار، رغم أنه كان بين أحبائه وأهله، لأنه كان لا يزال يعاني من الألم الجسدي بعد سنوات من الأسر.

ولكن اللقاء مع "طه" لم يكن كما توقع، فقد تعثّر محمد في البداية في التعرف عليه بسبب حالة الإرهاق، لكن عندما أشار إليه طه مرّة أخرى، تأكد محمد من هويته، واحتضنه بحرارة، لم يكن طه فقط شخصًا يحمله من بين الزحام، بل كان يحرص على ألا يتجمع الناس حوله ليعبروا عن فرحتهم بطريقة تؤذيه.

مع تصاعد الحماسة، بدأ الناس يعرفون من هو محمد العارضة، وبدأ التدافع يزداد حوله، كان هناك ضغط كبير عليه، لكنه ظل هادئًا، وكان طه، من جديد، هو الشخص الذي دفع الناس بعيدًا عنه لحمايته من تدافع المحبين.

مع مرور الوقت، وصلوا إلى قاعة اللقاء، حيث كان عائلته في انتظارهم، اللحظة التي التقى فيها محمد مع شقيقته الكبيرة وزوج شقيقته وشقيقه أحمد كانت لحظة مؤثرة، مليئة بالبكاء والعناق، كانت لحظة مليئة بالحب، لكنها في الوقت نفسه كانت محملة بالضغط العاطفي والجسدي، مما جعله يشعر بحاجته للهروب بسرعة لتجنب المزيد من التدافع.

بينما كان المحبون يتزاحمون حوله للتعبير عن فرحتهم، كانت عائلته حريصة على ألا يُصاب بالأذى أكثر، كانت لحظة مؤلمة له، بين فرح اللقاء وقلقهم عليه، بعد فترة قصيرة، قرروا أن يتركوا القاعة ويسرعوا إلى السيارة، حيث استطاع "العارضة" أن يتحدث لوسائل الإعلام في طريقه، بعد أن انتهى اليوم الأول من هذا اللقاء المفعم بالعاطفة، في تلك اللحظة، كانت الكلمات قاسية، لكن قلبه كان مليئًا بالكلمات عن أهل غزة، أولئك الذين وصفهم بأنهم "أكرم الناس، وأشجع الناس، وأوفى الناس".

لقد كانت لحظة لا يمكن وصفها بالكلمات، لحظة تبرز من خلالها مشاعر الحب والوفاء، لكن في قلبها أيضًا كان الألم من محبة الناس التي لا تعرف حدودًا، ومحاولة محمد للحفاظ على نفسه وسط هذا الحب المفرط، الذي كان يمثل معركة بين القلب والجسد.

"رسالة للمقاومة"..

في رسالته الموجهة للمقاومة الفلسطينية، عبّر محمد العارضة عن شكرٍ عميق وتقدير للمجاهدين الذين صدقوا الوعد وأوفوا بالعهد، استهل كلماته بالدعاء لهم بأن يسدد الله خطاهم ويهديهم لما فيه الخير، ورغم ما عاناه من ظلم وقيد وتعذيب، ظل يرى الحياة بعين ملؤها الأمل والتفاؤل، مؤمنًا بأن من فقد الكثير منها هو الأقدر على تقدير قيمتها، وهي الرسالة التي يحملها الفلسطينيون في أعماقهم رغم كل الجراح.

يؤكد "العارضة" في حديثه أن الفلسطيني هو أكثر الناس حبًا للحياة، هو يقاوم من أجل الحرية، ومن أجل تحرير أرضه وشعبه، يرى أن الحرية بالنسبة له هي أن يعود إلى أرضه، أن يرى جباله وتلاله، أن يتحرك بحرية تامة، في حين أن الاحتلال لا يزال قائمًا في وطنه، مما يمنعه من أن يعيش بحرية، ورغم ذلك، يبقى الفلسطيني مليئًا بالأمل، يصنع الحياة من بين يديه، ويعتقد أن الحقيقة التي يحملها هي حقه المشروع في الحرية، الذي سيأتي يومًا ما.

"مناضل الحرية"..

محمد العارضة يذكر كيف استغل كل لحظة داخل السجن في التعلم والتحصيل الثقافي، حتى تمكن من الحصول على شهادة الماجستير في مجالات الشؤون الإسرائيلية والتاريخ، يؤكد أن "مناضل الحرية لا يقتصر نضاله على البندقية فقط، بل يشمل النضال السياسي والثقافي، وهو ما سعى لتحقيقه بكل ما أوتي من قوة".

وأخيرًا، يختتم رسالته بالتعبير عن أمله في أن يكون قد قدم قليلًا مما يمكن أن يساعد الآخرين في نضالهم المستمر، ويتمنى "العارضة" أن يكون له وقت أفضل في المستقبل ليتحدث مع الجميع بشكل مباشر، وينهي حديثه بتقديره الكبير لكل من حوله، مؤكدًا أنه سيظل دائمًا في خدمة شعبه وأمته.