في كل زاوية من زوايا غزة، هناك قصة، ذكرى، وشعور يتعلق بمكان ما كان يومًا هو الوطن، المنازل التي اختفت تحت ركام القصف لم تكن مجرد أماكن للعيش، بل كانت تمثل جزءًا من هوية أصحابها، من ماضيهم وحاضرهم، ومن لحظاتهم التي لا يمكن تعويضها.
لكل منزل دُمر، هناك قلب مفتت يحمل في طياته ذكريات لا يمكن استرجاعها، من لحظات فرح إلى لحظات قلق، من نضوج الأجيال إلى ضحكات الأطفال التي كانت تملأ الأرجاء، لم يكن فقدان البيوت مجرد خسارة مادية، بل كان تدميرًا للذكريات التي تشبثت بين الجدران.
"وكالة سند للأنباء" استمعت لذكريات الناس الذين فقدوا بيوتهم في غزة، وتعرفت على قصصهم المؤلمة التي تروي كيف تحول مكان كان يومًا ملاذًا آمنًا إلى ركام، تحدثوا عن اللحظات التي غيّرت حياتهم، وكانت تحمل وطنًا فيه ذكريات الطفولة، والأعياد، والمناسبات التي اختفت مع انهيار المباني.
"بيتي ملجأي بعد كل تعب"..
بصوتٍ يخنقه الشوق، تبدأ حديثها عن البيت الصحافية وعد أبو زاهر: "لم يكن مجرد جدران وسقف، بل كان عالمي الصغير، ملجئي حين تفيض الدنيا بأثقالها، وأماني حين ينهكني التعب والتيه، كنتُ أعود إليه منهكةً، فأجد فيه سكينتي وهدوئي، كنت أكون فيه أنا، بلا تصنّع أو قيود".
وتستعيد "أبو زاهر" لحظات القصف التي بددت الأمان، "منذ بداية الحرب في أكتوبر، استُهدف البيت ثلاث مرات، في المرة الأولى، كان الضرر جسيمًا لكنه لم يكن كافيًا ليقتل الأمل، كنتُ ما زلتُ أقول: سأعود، سأشم جدرانه، سأحضنه كأنه كائن حيّ، ثم جاءت الضربة الثانية، فاهتزّ أكثر، لكن روحي كانت معلقة به، في الثالثة… كان الانهيار الكامل".
وتتابع "أبو زاهر" بصوت يفيض حسرة، "لم أفقد مجرد بيت، بل فقدتُ نفسي، هويتي، عالمي الآمن الذي كنتُ ألوذ به حين تضيق الدنيا، أن تخسر بيتك يعني أن تخسر امتدادك، أن تشعر وكأنك واقف في العراء، بلا جذور، بلا شيء يحميك من هذا الطوفان".
ثم تغرق في تفاصيل بيتها الذي بات ذكرى، تضيف "أبو زاهر": "كان بيتي حياةً قائمة بذاتها، لم يكن مجرد مكان أسكنه، بل كان امتدادًا لي، لكل ما أحب، كنتُ أحبّ التطريز، أحبّ الطبخ، كنتُ أصنع عالمي بيديّ، بعد صلاة المغرب، كنتُ أجلس أطرّز وأستمع إلى الموسيقى، على الجدار لوحاتي الصغيرة، عبارات من نسج يدي، تفاصيل كثيرة صنعتها بحب".
وتتنقل "أبو زاهر" بين الزوايا التي كانت تنبض بالحياة: "كان لديّ أكثر من 200 طُبّة خيوط حرير، ألوانها تحكي قصصًا لا يعرفها أحد سواي، ومكتبتي… مكتبتي التي جمعتُها كتابًا كتابًا، بحبٍ ودقة، أكثر من 1200 كتاب كانوا يحيطون بي، يشاركونني لحظات الصفاء والتأمل".
أمّا عن الركن الذي كان أقرب إليها من العالم بأسره، تتحدث "أبو زاهر"، "في أحد أركان البيت، كنتُ أضع كنبة صغيرة، بجانبها مكتبة وطاولة عليها جهازي اللاب توب وأشيائي التي تأخذني لعالم القراءة، زاويتي تلك، كانت منفذي إلى العوالم الأخرى، واليوم... فقدتُها".
وتصل "أبو زاهر" إلى أكثر الأماكن التي اشتاقت إليها، "كان لي في البيت زاوية خاصة، مكانٌ أختلي فيه مع الله، منتصف الليل هناك كان له طعم مختلف، فيه روحانية وسكون، حتى الحائط الذي كنتُ أخطّ عليه يومياتي، أمانيّ، مخططاتي، كل شيء كان هناك… ثم فجأة، لم يعد له وجود".
وتختم "أبو زاهر" بنبرة تختلط فيها المرارة بالحنين، "أن تخسر بيتك ليس مجرد خسارة مادّية، بل هو أن تُقتلع من جذورك، أن تفقد المكان الذي كنتَ تشعر فيه أنك تملك العالم، واليوم، أنا بلا بيت... بلا وطن صغير يحتويني".
"واقع بلا جدران"..
تسرد الصحافية سماح حجازي بصوتٍ يملأه الحنين والفقد، وتتابع بمشاعر تأبى أن تخبو: "أن تستيقظ ولا تجد نفسك في المكان الذي كان يجمّل صباحاتك، أن تفتح عينيك على واقعٍ بلا جدران احتوتك، بلا زوايا شهدت أحاديثك وضحكاتك، هذا وحده كافٍ ليشعرك بأنك ضائع، لم يكن منزلي مجرد حيطان، كان ذاكرتي الممتدة منذ الطفولة، كان يحتفظ بصوت جدتي، وضحكات أبي، وأحاديث إخوتي الذين غيّبتهم الحرب. الآن، كل شيء اختفى، تلاشى تحت الركام، وذابت ذكرياته في غبار الفقد".
وتواصل "حجازي" بحنين إلى أيامٍ لم تعد: "منزلي كان عالمي الخاص، مملكتي التي تعكس شخصيتي، بصمة وجودي، حرصتُ على أن يكون له طابعٌ فريد لا يشبه غيره، بألوانه، بتصميمه، بكل تفاصيله الصغيرة، كان لنا في الشتاء طقوسٌ لا تُنسى، حيث يجتمع الأحبة حول النار، نطهو أكلاتنا الفلسطينية على الحطب، وننسج من دفء اللقاء ما يحفظنا من صقيع الأيام، لم يكن مجرد جدران، كان بيتًا يلمّ شملنا في الأعياد والمناسبات، في كل ركنٍ منه كانت لنا حكاية، وفي كل زاوية تفاصيل لا تُعوض".
وتسترجع "حجازي" ما كان من عمرٍ وحكاياتٍ حُفرت في أساسات البيت، "كل حجرٍ في منزلنا كان يحمل تعب أبي وعرق جبينه، فهو الذي وضع أساساته، وهو الذي بسط أرضياته بيديه، كان يبنيه وكأنه يشيد لنا عمرًا لا يهدم، لكنه انهار، نشأتُ بين هذه الجدران على الأصول والقيم، على حب الوطن الذي حكت عنه جدتي في ليالي الشتاء الطويلة، كنتُ أسمعها تتحدث عن البلاد وأمل الرجوع إليها، وكأنها كانت تزرع فينا جذورًا لا تُقتلع... واليوم، اختفى البيت، اختفت الجدران، لكنّ الأحاديث ما زالت تتردد في أذني".
ماذا عن النظرة الأولى للمنزل بعد الدمار، تُجيبنا "حجازي"، كان الشعور أشد قسوة مما تخيلت، أمام الأنقاض، لم يكن الحزن وحده ما اجتاحني، بل شعورٌ بالضياع، بالغربة في أرضي، كأنني كنتُ أملك كنزًا لا يُقدّر بثمن، وها هو قد تلاشى في لحظة، رأيتُ حجارةً متناثرة، لكني لم أرَ منزلي، لم أرَ تفاصيله التي كنتُ أحفظها عن ظهر قلب، لم أعد أعرف كيف أحتوي هذه الخسارة، كيف أستوعب أن كل ذكرياتي قد دُفنت تحت هذا الركام".
وتتابع ضيفتنا بنبرة تملأها الغصة، "لا أستطيع تجاوز هذه الفكرة، مجرد التفكير بأن المكان الذي احتواني وأحلامي قد أصبح بلا قيمة، مجرد حجارة متناثرة، يؤلمني بشدة، كان البيت انتظارًا طويلًا للعودة إليه كل يوم، كان مملكتي التي أعرف زواياها أكثر مما أعرف نفسي، والآن، لم يعد هناك شيء، انتهى كل شيء".
وتختم "حجازي" بصوتٍ مثقلٍ بالفقد، "الخسارة المادية قد تُعوّض، لكن الخسارة العاطفية لا تُقدّر بثمن، فقدتُ منزلي، لكن ما فقدته حقًا هو روحي التي كانت تسكن فيه، هناك شيء ما انكسر داخلي، شيءٌ لن يعود أبدًا".
"فقدت ذاتي الحقيقية"..
تقول الشابة جنين الحسنات، "إن البيت لم يكن مجرد جدران، بل عالم بأكمله، لم يكن مجرد مأوى، بل كان عالمي الأول، المكان الذي وعيت عليه وتعلمت فيه معنى الأمان، كان المساحة الوحيدة التي أكون فيها "جنين" الحقيقية، بعيوبها قبل مميزاتها، بعيدًا عن أعين العالم وأحكامه"، وعندما فقدته، شعرت أنني فقدت ذاتي الحقيقية، كأن جزءًا من روحي قد انهار بين الركام.
وتتابع "الحسنات"، قائلة إن العودة إلى البيت كانت طقسها اليومي المقدس، لم يكن هناك ما يوازي متعة أن تختم يومها بالدخول إلى غرفتها، حيث تغلق الباب على نفسها وتسترجع تفاصيل يومها، كانت تبكي أحيانًا، لكنها لم تشعر بالوحدة قط؛ فجدران البيت كانت تحضنها، تواسيها، وتخبئ دموعها عن هذا العالم.
وتضيف "الحسنات"، أن منزلنا كان شاهدًا على بداياتي الأولى، نطقت بأول جملة مفهومة، حفظت أول قصيدة، وصعدت أول منصة لألقي كلماتي أمام جمهور، من هذا البيت، بدأت رحلتي نحو المستقبل، تشكلت أحلامي، وتبلورت شخصيتي، كان شاهدًا على كل تفاصيلي، وكل ما أصبحت عليه اليوم".
وتوضح "الحسنات"، أن لحظة رؤية الدمار كانت لحظة اغتراب، حين وقعت عيناها عليه لأول مرة بعد الدمار، شعرت أن ذاكرتها قد هُدمت معه، كانت تبحث عن ملامح الماضي بين الأنقاض، لكن المشهد كان غريبًا ومشوهًا، وكأنها تواجه نسخة مشوشة من نفسها".
وتستدرك "الحسنات" قائلة إن رغم كل هذا، وجدت في الفقدان عزاءً، وكثيرًا ما أقول الحمد لله أن البيت رحل برحيل أصحابه، وإلا لما كنت سأحتمل العيش فيه، فما قيمة الجدران إذا غاب من كانوا يمنحوننا الحياة؟ رحيل العائلة جعلني أشعر أن فقدان البيت كان أهون مما تخيلت، بكَيت لفقده، لكنه كان رأفة بقلبي، فقد كان الماضي والحاضر والمستقبل من صنع أولئك الذين عاشوا فيه، وحين غابوا، لم يعد المكان كما كان".