في كل قصة بطولة، ثمة ضوء خفي لا يراه الجميع، لكنه وحده من يصنع الفرق، وفي حكاية الأسير المحرر عمار الزبن، ذلك الضوء كان امرأة، اسمها دلال، لكنها ليست مجرد اسم، بل ملحمة من الصبر والتحدي، هي التي وقفت خلف الجدران تنتزع الحياة من بين مخالب السجن، وتعيد صياغة معنى الانتصار.
حين سُجن "الزبن"، لم يُحكم عليه وحده، بل كان القدر يختبر دلال، وكان عليها أن تختار بين أن تعيش على هامش الانتظار، أو أن تخوض حربًا غير مألوفة، حربًا ضد الاحتلال، وضد العرف، وضد المستحيل، لكنها لم تتردد، لم تسأل كيف؟ ولماذا؟ بل قالت: "متى؟"، فأصبحت شريكة في معركة من نوع آخر، معركة لم يكن فيها سلاح سوى العزيمة، ولم يكن فيها ميدان سوى الأمل.
كانت الفكرة جنونًا في عيون الكثيرين، كيف للأسير أن يكون أبًا رغم القيود؟ كيف للنطفة أن تهرب رغم العيون التي لا تنام؟ لكن حين يكون للمرأة يقين، يصبح الجنون احتمالًا واردًا، وتصير المعجزة أمرًا مألوفًا.
واليوم، حين يروي عمار حكايته، لا يتحدث عن نفسه كبطل، بل يشير إليها، إلى تلك التي كانت السند، والتي خاضت وحدها معركة الشائعات، والشكوك، والانتظار، ولم تهتز، إنها لم تكن امرأة تنتظر، بل امرأة تصنع المستقبل، وحين جاء الابن، لم يكن مجرد طفل، كان إعلان انتصار، شهادة ميلاد للحرية التي لا تُهزم، ودليلًا أن بعض النساء ليسوا مجرد أمهات، بل جبهات لا تُخترق.
"وكالة سند للأنباء" تُحاور الأسير المحرر والروائي الفلسطيني عمار الزبن، ابن مدينة نابلس شمالي الضفة الغربية، الذي خاض المواجهة بالسلاح والقلم، وكتب حريته بحبر الصمود.
وُلد "الزبن" عام 1975 في عائلة عرفت طريق المقاومة، وانضم إلى كتائب عز الدين القسام، حيث نفذ عمليات عسكرية ضد الاحتلال الإسرائيلي، واعتقل ثلاث مرات، آخرها عام 1998 بعد عودته من الأردن، وحُكم عليه بالسجن 27 مؤبدًا و25 عامًا إضافية.
وداخل الأسر، خاض الزبن معارك متعددة، لم يكن الصمود فيها وحده كافيًا، بل كتب فصولها بالقلم والنضال الإنساني. في أغسطس/آب 2005، فقد والدته التي رحلت إثر جلطة دماغية أثناء إضرابها عن الطعام تضامنًا مع الأسرى المضربين، ولم يكد العام ينتهي حتى لحق بها والده، ليحرم من وداعهما وهو خلف القضبان.
وبعد أكثر من ربع قرن خلف القضبان، تنفّس الزبن هواء الحرية أخيرًا في 27 فبراير/شباط 2025، حين أُفرج عنه ضمن الدفعة السابعة من صفقة تبادل الأسرى بين حركة حماس وإسرائيل، تنفيذًا لاتفاق وقف إطلاق النار الذي توصّل إليه الطرفان في 15 يناير/كانون الثاني من العام نفسه، ليطوي بذلك فصلًا طويلًا من الأسر، ويفتح صفحة جديدة من الحياة.
"المحارب البطل"..
حين تراه، لا ترى رجلًا أنهكته السنون، بل محاربًا يحمل على كتفيه ثلاثة عقود من الصمود، سُجن شابًا وعاد إلى الحياة وهو يناهز الخمسين، لكن الزمن لم يسلبه سوى الجدران، محكومٌ بستة وعشرين مؤبدًا وسبعة وعشرين عامًا إضافية، كان الاحتلال يريد له أن يكون رقمًا في السجون، لكنه كان مشروعًا للخلود.
يتبسم "الزبن" قليلًا، وكأنه يسترجع اللحظة التي تغير فيها كل شيء، ثم يقول بصوت هادئ لكنه عميق: "عندما اعتُقلت، كانت ابنتي بشائر بالكاد قد تعلمت كيف تضحك، وبيسان لم تكن قد أبصرت النور بعد، كانت ما تزال تنبض في رحم أمها، تحملها أم تحملها؟ لا أعرف، لكنني كنت أعلم شيئًا واحدًا، أنني لن أكون حاضرًا حين تأتي إلى الدنيا، ولن تسمع صوتي حين تنادي أبي للمرة الأولى، هذه هي الحرب الحقيقية، ليست تلك التي خضتها في الميدان، بل تلك التي خاضها الزمن ضدي، وأنا خلف الأبواب الموصدة."
"بداية فكرة النطف"..
حين قرر "الزبن" أن يكون أبًا رغم الأسر، لم يكن يبحث عن كسر القيود فحسب، بل عن إعادة تعريف الانتصار، كان الاحتلال قد أحكم قبضته على كل شيء، لكنه لم يكن يعلم أن هناك بابًا آخر للحياة لا يستطيع إغلاقه، يبتسم "الزبن"، ثم يقول: "لم أكن أول من فكر بتهريب النطفة، لكنني كنت أول من جعلها تعبر إلى الحياة، في عام 2003، ولدت الفكرة، ثم انتظرت لحظة النضج، وها هي جاءت بعد ثماني سنوات."
لم يكن الأمر مغامرة عابرة، بل كان تحديًا وجوديًا على أكثر من مستوى، خطوة واحدة خاطئة كانت كفيلة بأن تطيح بالحلم بأكمله، يُعبّر ضيفنا: "لم تكن المعركة فقط مع الاحتلال، بل مع المجتمع، مع العرف، مع الخوف من المجهول، كان لا بد أن يكون كل شيء مُتقنًا، محسوبًا، محميًا، أخبرت زوجتي: 'إن كنتِ جاهزة لهذه الحرب، سنخوضها معًا، فأجابت: "أنا في الميدان، وسأنتصر".
أول من بدأ هذا المشروع لم يكن أنا، بل زوجتي دلال ربايعام، نعم، هي 'أم مهند'، أو كما أحب أن أطلق عليها 'أم بشائر'، هي التي وضعت أولى اللبنات في هذا التحدي، وكانت لها السبق في الخروج بفكرة تهريب النطفة، البداية كانت بسيطة، ولكن المسار لم يكن خاليًا من العوائق.. في البداية، كان لدينا مشكلة أكبر من مجرد تهريب، كان لدينا حلم أن نعيد الحياة في السجون."
ويتابع بنبرة حاسمة: "مباشرة، مع حلول هذا التحدي، كانت الخطة واضحة، لقد كنا نحمل الأمل، لكننا نعرف أن الاحتلال سيسعى للتعطيل في كل لحظة، قبل أن يُمنعوا، اعتدنا على تهريب السكاكر والأشياء الصغيرة للأطفال، فكان هذا الجزء سهلاً، لكن الأمر في تهريب النطفة كان أبعد من هذا بكثير."
لم تكن المسألة مجرّد عملية تهريب، كانت ثورة صغيرة داخل الثورة الكبرى، قبل التنفيذ، كان لا بد من إحاطة الدائرة المقربة علمًا، كان الأمر أكبر من أن يكون مجرد شأن شخصي، بل كان معركة يتداخل فيها الفردي بالجمعي، يأخذ نفسًا عميقًا، ثم يتحدث بحزم: "أخبرت نواب المجلس التشريعي، أخبرت ممثلي الفصائل داخل السجن، أخبرت الذين يجب أن يعلموا، لأن الأمر لم يكن مجرد فكرة شخصية، بل قرارًا يلامس المجتمع كله، لم يكن الجميع مؤيدًا، بعضهم تفاجأ، بعضهم عارض، بعضهم صُدم، لكن الفكرة حين يأتي أوانها، لا يوقفها أحد."
وفي النهاية، نجحت العملية، لم يكن انتصارًا لـ "الزبن" وحده، بل كان انتصارًا للأسرى جميعًا، لكل من ظن أن الجدران قادرة على قتل الأمل، بصوت هادئ لكنه يقطر يقينًا، يقول: "خرجت النطفة من سجن شطة، لكنها لم تخرج وحدها، خرجت معها رسالة: أن الاحتلال، بكل قوته وجبروته، عاجز عن قتل الحياة."
هل كنت واثقًا من نجاح العملية؟ يُجيب بعد ابتسامة: "كنا نعلم أن النجاح يتطلب دهاءً لا يقل عن جرأتنا، خاصة أن النطفة يجب أن تبقى في درجة حرارة ثابتة، لا مجال لأي خطأ، لا رفاهية للتجربة والخطأ أبدًا".
ثم بصوت ينخفض قليلًا، كمَن يهمس بسر: "استخدمنا حرارة أجسادنا، خبأناها قرب قلوبنا، تحت أضلاعنا، حيث لا تصل أصابع التفتيش، كنا نعلم أن الرقابة لا تغفل، فبحثنا عن ثغراتها، عن لحظات الغفلة، عن طرق لا تخطر لهم على بال".
يتنقل "الزبن" في ذكرياته بسرعة، ليلامس تلك اللحظة التي شعر فيها أن السجن أصبح مكانًا يعجز عن احتوائه، ويتذكر كيف كانت اللحظة الفاصلة بين السكون والانفجار: "بعدما تمكنّا من إخراج النطفة، كانت العقبة الكبرى هي الوقت، النطفة لا يمكن أن تبقى خارج الجسم لأكثر من نصف ساعة، وهذه كانت أكبر تحدٍ، ولكن، وبفضل الله، استطعنا أن نكسر هذه القاعدة، كان وصول النطفة إلى نابلس بعد أقل من ساعتين، وهو أمر لم يكن متوقعًا، والحمد لله، تمكنا من إنقاذها كما لو كانت أرواحنا على المحك."
ثم، بنبرة قريبة من الضحك الممزوج بالفخر، يواصل حديثه: "وفي تلك اللحظة، ضحكت زوجتي وقالت لي: 'الدكتور يقول يجب أن نجري التجربة'، لا أدري لماذا، لكن في تلك اللحظة، شعرت أننا قد نعيش لحظة لا تُنسى، كنت قد وافقت دون تردد، وعندما وصلت النطفة سليمة إلى المستشفى، أخبرت الأسرى في السجن، أخبرتهم أن النطفة هربت ووصلت سليمة."
ويضيف: "الفكرة وحدها لا تكفي، كان لا بد من امرأة تُؤمن بها، لا تتردد عند أول فشل، لا تخشى الشائعات ولا كلام الناس، زوجتي كانت كذلك، لم تقل لي يومًا: هل أنت متأكد؟ بل قالت: متى سنحاول؟".
يضحك ضحكة قصيرة، ثم يُبيّن: المحاولة الأولى؟ فشلت، الثانية أيضًا فشلت، لكننا لم نتوقف، لم يكن خيارنا أن نستسلم، حتى جاء اليوم الذي عبرت فيه النطفة، وكأنها كسرت قيدًا آخر لا تراه العيون، قيدًا صنعوه ليبقونا هنا بلا امتداد، بلا مستقبل".
ويسرد "الزبن" بامتنان لا تخطئه الأذن: "بطل هذه المعركة لم أكن أنا، بل زوجتي، كنت أسيرًا بين الجدران، أما هي فكانت أسيرة التحدي الحقيقي، في قريتها الصغيرة، وسط مجتمع ريفي محافظ، حيث قد تتحول الشكوك إلى خناجر، لكنها لم تتراجع، ولم تضعف، ولم تهتز، وقفت شامخة، كأنها تقول لهم جميعًا: (هذا ليس طفلًا وحسب، هذا نصر)".
في قلب كل رجل، هناك زوجة تعينه، ولكن بطلنا يراها أكثر من ذلك، فيسميها "البطلة الحقيقية" و"المرأة المقاتلة"، تلك التي بفضل إصرارها، أصبحت هي الركيزة التي قام عليها هذا المشروع الكبير، يقول: " بكل تواضع، أنا لم أكن سوى مساعدٍ في هذه الرحلة، إلا أن الفضل يعود لها أولًا وأخيرًا.. ولذلك، لا يمكنني إلا أن أشكر الله ثم زوجتي التي كانت وراء كل نجاح.
ويستعيد "الزبن" تلك اللحظة التي كانت أقرب إلى حلم تحقق على أرض الواقع، قبل أن يعيد توجيه الحديث نحو تأثير هذا الإنجاز على رفاقه في الأسر: "عندما علم الأسرى بهذا الخبر، لم يكن هذا انتصارًا لي فقط، بل كان انتصارًا للجميع، كان يُنظر إليه كإنجاز لا يخص عائلة الزبن وحدها، بل يشمل كل الأسرى، بالنسبة لهم، كان ذلك نوعًا من الإصرار على الحياة وسط الجحيم، وكان بمثابة رسالة مفادها: 'لا يزال لدينا أمل".
ثم يضيف، وكأن مشهدًا حيًا يعبر أمامه: "حتى أن الفصائل كافة قررت أن تحتفل بهذا الحدث، فأقاموا وليمة على حسابهم، وأصدروا تعميمًا تهنئة، كان شيء غير معقول، وأنا أحتفظ بهذا التعميم حتى اليوم، رغم أن الاحتلال صادر كل شيء منا، وأحرق كل ما كان لدينا في معركة طوفان الأقصى، إلا أن تلك اللحظات لن تمحى من ذاكرتي."
ويُعبر "ضيف سند" "بعد سنوات من الألم والانتظار، وبعد ما يقارب أربعة عشر عامًا من الانقطاع عن الأمل في الإنجاب، كانت المفاجأة.. حتى زوجتي كانت قد توقعت أن تكون الأمور صعبة، إلا أن الحمل تحقق، وكان هذا الحدث، قبل صفقة وفاء الأحرار في عام 2011، بمثابة الضوء الذي عكس في عيون الأسرى جميعًا الأمل والتحدي، لقد احتفلوا وكأنهم هم من حققوا هذا الإنجاز.. ربما، كان ذلك أحد الأسباب التي جعلتني أتمسك بكل لحظة."
ماذا عن فرحة الناس؟ يُجيبنا بِحَماس: "الناس كانت منفعلة، يريدون أن يروا هذا النور، أن يعرفوا من هو هذا الطفل الذي خرج من بيننا، من أسير مجاهد، وكيف يمكن لمثل هذا الطفل أن ينبض بالحياة وهو في رحم زوجتي؟ كل شيء تحول إلى ضجة، الاحتفال لم يكن فقط لي أو لعائلتي، بل كان انتصارًا لنا جميعًا، احتفلنا كما لو أننا نعيش مجددًا، لكن أكبر صدمة لي كانت حينما بثت وسائل الإعلام ولادة مهند بشكل مباشر من غرفة العمليات، فكنت مصدومًا، رغم أنني عادةً سريع الانفعال، لكنني كنت محاطًا بزملائي في الغرفة، وكانوا يبكون جميعهم، أحدهم، الشهيد المجاهد محمد عبد الله أبو جابر، الذي انتقم لدماء أهلنا في غزة، كان معي في تلك اللحظة."
اللقاء الأول مع أطفال النطف..
كيف كان لقاءك الأول بـ "الأسدان" كما تُحب أن تناديهما، يُعبر: "طفلي مهند وأسميته تيمنا بصديقي مهند الطاهر الذي اغتيل عام 2002، وكان أول لقاء لي به في سجن هدريم، عندما كان في الشهرين والنصف، وكان ذلك اللقاء بداية لفرحة لا تُوصف، لكن بعد خمس سنوات من الفراق، جاء اللقاء الثاني مختلفًا تمامًا؛ ففي تلك اللحظة التي صافحني فيها وأقبلني، شعرت وكأن الزمن قد عاد بي إلى تلك اللحظات الجميلة، وكأنني لم أفقده يومًا".
يُكمل: "ثم جاء صلاح الدين، الذي لم يكن أقل من مهند في جماله وذكائه، ليضيف إلى عائلتنا المزيد من الفرح، ففي الرابع من سبتمبر 2014، دخل إلى حياتنا ليجعل هذا المشروع العائلي يكبر أكثر وأكثر، ولتصبح العائلة كلها جزءًا من هذا الإنجاز العظيم، وهكذا، لم يعد الموضوع مجرد فكرة، بل تحول إلى حقيقة عظيمة في كل لحظة وفي كل طفل جديد.
"تجربة الأسر"..
أما عن تجربته في الأسر، فلا يزال حديثه صادمًا وقويًا يقول: "الأسر ليس مكانًا للأحرار، الأسر يعيد تشكيل الروح، يعيدك إلى نفسك، لكن الحرية الحقيقية هي في الميدان، في العمل من أجل الحرية، في السعي المستمر نحو التحرير."
ويوضح "الزبن"، تجربتي بالأسر بدأت في سن السادسة عشر، عندما اعتقلت لأول مرة، مررت بتجارب صعبة ولكنها عظّمتني، علمتني معنى الصبر والمقاومة، ورغم اعتقالي المتكرر، إلا أنني كنت أواجه كل شيء بإيمان، حتى في أصعب اللحظات التي قضيتها في التحقيق، التجربة لم تكن جديدة علي، فقد اعتقلت عدة مرات، وكان الاعتقال الأخير في 1998، ولم يكن يتوقع أحد أنني سأتحمل تلك السنوات الطويلة، لكن الإيمان بالله كان يمدني بالقوة".
كيف كنت تحافظ على المعنويات داخل الأسر؟ يُبين "الزبن"، "يتم ذلك بملء الوقت بما هو مفيد، فسواء كان بالصلاة أو بالتسبيح والذكر أو من خلال الانضباط في مدرسة قيام الليل، فإن ذلك يملأ القلب بالسكينة، وأيضًا، العلم كان جزءًا أساسيًا من هذه الرحلة؛ تحصيله أكاديميًا كان منهجيًا أو غير منهجي".
ورغم كل تلك الصعاب، استمر ضيفنا في الحديث عن اللقاءات التي جمعته مع العديد من القادة والمجاهدين، مستشهدًا بالشيخ إبراهيم المقادمة رحمه الله، الذي قدم لهم دروسًا في الثبات في السجون، متجاوزًا بذلك الحواجز المكانية والزمانية، كما تحدث عن لقائه بالعديد من القادة الكبار من الضفة وغزة، معبرًا عن أن هذه اللقاءات كانت "نورًا وسط الظلام"، وأضاف قائلًا: "لقد تعلمنا منهم الكثير، وكانوا بالنسبة لنا رمزًا للصمود".
"الدراسة الأكاديمية داخل الأسر"..
ومع مرور الزمن في الأسر، تحول هذا التحدي إلى فرصة للنمو والتعلم، يُشير "الزبن" بكل فخر إلى إنجازاته العلمية التي تحققت في تلك الظروف القاسية، حيث حصل على شهادة البكالوريوس في العلوم السياسية، ثم أكمل دراسته للحصول على الماجستير في الدراسات الإسرائيلية، ليؤكد أن الأسر لم يكن عائقًا بل كان محفزًا لرفع مستوى الوعي والتعلم.
وعن تحدياته الأكاديمية في السجون، يتابع: "على الرغم من الحرب في السودان، استطعت التسجيل في جامعة أم درمان لدراسة الدكتوراه في العلوم السياسية".
ويُتابع ضيفنا: "لكن رغم كل هذه الإنجازات، لم تكن الظروف سهلة، الحرب في السودان كانت تحديًا كبيرًا، حيث أدت إلى تعطيل بعض مراحل الدراسة، لكن بفضل الله سبحانه وتعالى، تمكنت من العمل على أطروحتي لمدة سنة ونصف، وأنا فخور جدًا بهذا الإنجاز الذي تم رغم الصعوبات التي مررنا بها، فالإرادة كانت دائمًا أكبر من التحديات".
ويُكمل بكلماتٍ من الفخر: "قد يتساءل البعض عن كيفية إتمام البكالوريوس والماجستير والدكتوراه في ظل الأسر، لكن الجواب بسيط: الإرادة والعزيمة، بالإضافة إلى التكيف مع الظروف الصعبة وتذليلها، كانت العوامل التي جعلتني أستمر في طريقي الأكاديمي رغم كل شيء".
مشاعر التحرير"..
يُعبر بكلمات لا مثيل لها: "عندما علمت أن هناك فرصة للتحرر، أول ما فكرت فيه كان رؤية الأشياء بطريقة مختلفة، رؤية خالية من قيود الشرطي أو السجان أو العدو، هذا كان الأمل الأول والأكبر، لأن كل شيء دون الحرية يصبح صغيرًا، حتى لو كان يتعلق بالعائلة أو بالأبناء، لكن، يبقى الهدف الأسمى للمجاهد هو التحرر من قيود العدو، من شتائمه، ومن محاولاته لكسر المعنويات.
ويضيف "ضيف سند"، "الحمد لله، فضل الله سبحانه وتعالى كان حليفنا، ومنذ اللحظة التي تحررنا فيها ودخلنا أرض مصر، شعرنا بحرية تامة، حيث لم يعد هناك خطر من الاعتقال، صحيح أنني حزين لعدة أمور، أولها أنني بعيد عن وطني، لكنني على يقين أن عودتي ستكون حتمًا عاجلًا أم آجلًا".
وتابع حديثه عن معاناة السجن، مشيرًا: "حتى لو كان كوب الشاي نفسه في السجن، إلا أن الخروج إلى الحرية يغير طعم كل شيء، فتذوق الحرية يجعل لكل لحظة معنى مختلف."
أما عن التحديات النفسية التي يمر بها بعد التحرر فقال: "حتى اليوم لا أستطيع النوم إلا في متر واحد من الفراش، ذلك لأن جسدي ما زال يشعر بالقيود التي اعتدت عليها طوال السنوات، لكن رغم ذلك أنام نوم عميق".
وفيما يخص الإحساس بالحرية بعد الخروج، يُعبر ضيفنا مبتسمًا: "السجن لا يزال معنا، رغم خروجنا منه، فهناك أماكن وأشياء صغيرة في حياتنا تذكرنا به، كأن نقفل باب الغرفة أو نغلق الحمام."
ويسرد "الزبن" تفاصيل شعوره "أما الشعور الذي اجتاحني بعد الخروج من السجن مباشرة، فكان شعورًا غريبًا، إذ أدركت أن أول ما فكرت فيه كان الأمن، شعرت بأنني أخيرًا في مكان آمن، حيث لا ملاحقة ولا تهديد."
وعن الرحلة الطويلة من معبر رفح إلى القاهرة، قال: "خمس ساعات في الصحراء كانت من أجمل لحظات الرحلة، رغم كل شيء، كنت مستمتعًا برؤية الحياة، حتى الأطفال والعساكر كانوا يبادلوننا التحية".
"غزة روح المجاهدين"..
وفي ختام حديثه، عبّر ضيفنا عن فخره الشديد بغزة، يقول: "غزة هي رأس الحربة في مقاومة الاحتلال، ولا يمكن أن تنكسر مهما كانت التحديات"، هذه الكلمات تعكس مدى ارتباطه العميق بالأرض والشعب، مؤكداً أن المقاومة ستستمر حتى تحقيق التحرير.
ويصف "الزبن" غزة بـ "روح المجاهدين"، قائلًا: "غزة هي الروح، هي القلب، هي كل شيء بالنسبة لنا، وتصيبني قشعريرة عندما أذكر اسمها، فغزة أكبر بكثير من مجرد مكان أو اسم".